الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

التبعية والغيرية في حديث عيسى بن هشام «3»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لقد أدرك المجددون الأوائل ضرورة إعداد جيل من شبيبة الباحثين لإعادة بناء العقل الجمعى العربى - كما أشرنا - ونشر الوعى بين المثقفين وذلك للحد من سلطة خطاب المقلدين للموروث العتيد من جهة والمغربين المحدثين المقلدين للثقافة الغربية من جهة أخرى، وقد حاولنا فى المقالات السابقة الكشف عن وجهة محمد المويلحى وبينا أنه قد اتخذ من التفكير الناقد نهجًا لخطابه، كما أوضحنا رفضه لجمود التقليديين الذين اتخذوا من التراث حصنًا ينطلقون منه لمهاجمة المجددين والنهضويين، وكذا عزوفه عن المغربين الذين زعموا أن فى تعلقهم بأذيال الغرب فلاحهم ونجاحهم وسبيلًا للنهضة والتخلص من سلطة قوى الجمود والرجعية التى آلت إليها ثقافة الشرقيين بعامة والعرب بخاصة.
ولما كان مقصد المجددين هو تفعيل خطاباتهم التنويرية راح معظمهم يكشف عن خطته لتحويل الرؤى والتصورات والانتقادات إلى مشروع على أرض الواقع. وها هو المويلحى يفرق بين الجمود والتقليد الرجعى من جهة والاحياء وتقويم الثوابت وحماية المشخصات من جهة أخرى، ويميز كذلك بين المغربين المفتونين بثقافة الغرب دون أدنى تمحيص أو دراسة لذلك الوافد المتعلقين به من ناحية رغبة فى تأسيس علم الاستغراب من ناحية ثانية الذى يرمى إلى دراسة ثقافة الآخر بمنطق الناقد وليس التابع أو المقلد، فالمشروع النهضوى للمجددين الأوائل يتمثل فى نجاحهم فى إعادة تشكيل العقل الجمعى عن طريق شبيبة الطبقة الوسطى، وتبصير الرأى العام بأن النهضة المرجوة والإصلاح المأمول والاستنارة المنتظرة لن تتم إلا بعقول وسواعد أبناء الثقافة التى ينتمون إليها.
ويجتهد المويلحى فى توضيح كيفية الحث على الانضواء تحت راية العلم الأوروبى الحديث مع الاحتفاظ بالمنحى النقدى الانتقائى عند تطبيق الفلسفة الغيرية، فيرى أن التتلمذ على الغربيين وانتحال مناهجهم دون مذاهبهم هو الهدف المرجو، وذلك بعد فحص تام للنظريات والفلسفات والنظم والعوائد الغربية قبل قبولها وإدراجها ضمن الثقافة الوافدة. ويؤكد أن مثل ذلك الصنيع يحتاج إلى عقلية ناقدة واعية، لا تبهرها أضواء الغرب والمشاهدات الطريفة والغريبة هناك ولا تتخذ موقفًا عدائيًا مسبقًا من تلك الثقافة. 
ويقسم المويلحى اتجاهات المثقفين وموقفهم من الغرب إلى أربعة ضروب أولها: طلاب البعثات والنازحين من شبيبة الشرق إلى الغرب للتعرف على مدنيته والتتلمذ عليها فمثل هؤلاء لا ينبغى التعويل على تقييمهم أو وصفهم وذلك لأنه يغلب عليهم المبالغة فى التبجيل والانبهار بالمظاهر وعدم إعمال العقل فى البحث عن الجوهر وحقيقة المخبر.
أما الضرب الثاني: فيمثله طلاب التنزه والسياحة فمثل هؤلاء لا يؤخذ منهم سوى مشاهدتهم وانطباعتهم ومشاعرهم تجاه ما شاهدوه وصادفوه.
أما الضرب الثالث: فيمثله أرباب الوظائف الحكومية الذين أرسلوا للغرب فى مهام بعينها فأولئك ليس لديهم من الوقت أو الجهد أو المنهج الذى يعينهم على نقد الثقافة التى أرسلوا إليها.
ولم يكن حظ الضرب الرابع أفضل من سابقيه بل إن شئت قل أسوأهم ذلك لأنه يمثل فريق المنتفعين والمسيسين الذين يروجون للأفكار الفلسفية والنظريات العلمية والمذاهب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية الغربية لنشرها فى الرأى العام التابع العربى وذلك تبعا لمنفعتهم الشخصية أو تلبية لرغبة من يدفع الثمن.
ويقول فى ذلك: وهناك قسم رابع ربما فحص ودقق ووقف وعلم ولكن له هوى خالصا يمنعه من كشف الحقائق ويدفعه إلى المبالغة إلى القصد والغلو عن عمد، فلا يروى ما يرويه عن هذه المدنية إلا بالتشييد والتمجيد باطلا كان أم حقا لينصر مذهب له معينا وغرضا مضمرا فيدأب بيننا كالأجير للأجنبى يرفع لنا من شأن مدنيته وقوة حضارته ليرتفع معه بارتفاعه ويتسلط علينا بسلطانه وينتفع منه بتمكين جاهه فينا وقدرته علينا وفى هذا القسم من يرى أن فى استيلاء المدنية الغربية على الشرق وتغييرها لقديم عاداته وأخلاقه انتصارا لمذهب بعينه فهم فى إشادتهم بأمرها وتشيعهم لها وتبشيرهم بها كالمتشيعين لمذهب والمبشرين بدين».
وينتهى المويلحى إلى أن هناك ضرب خامس نادر فى ثقافتنا العربية وهو الذى يجب التعويل عليه لتفعيل مبدأ الغيرية وذلك لأنه يمتلك من إمكانات وآليات ما لم يتوفر لغيره من الضروب الأربعة السابقة فهو يتميز بدقة الاستقراء وعمق التحليل وموضوعية النقد ودربة ودراية بالمقاصد والمآلات والثابت والمتحول وما يجوز نقله وإفشائه وما يجب منعه والسكوت عليه واجتنابه وكل ذلك بمنأى عن الهوى والذاتية والتعصب وأن تكون الغاية المأمولة هى الوقوف على الحقيقة وانتخاب منها الصالح العام لمداواة أدواء الواقع المعيش فى ثقافتنا العربية ومشخصاتنا المصرية.
ثم يختتم المويلحى مقامته على لسان أحد رفقائه فى باريس الذى رافقه وصحبه فى رحلتهما إلى أوروبا وغربلوا سويًا ثقافة الغرب وكانوا بمثابة طلائع علم الاستغراب المنشود، وتعرفوا على منابر الفضلاء وأوكار السفلة الأشقياء «أن لهذه المدنية الغربية الكثير من المحاسن، كما أن لها الكثير من المساوئ، فلا تبخسوها حقها وقدرها، وخذوا منها معشر الشرقيين ما ينفعكم، ويلائمكم، واتركوا ما يضركم، وينافى دينكم وطباعكم، واعملوا على الاستفادة من جليل صناعاتها، وعظيم آلاتها، واتخذوا منها قوة تصد عنكم أذى الطامعين وشره المستعمرين، وانقلوا محاسن الغرب إلى الشرق، وتمسكوا بفضائل أخلاقكم وجميل عاداتكم، فأنتم بها فى غنى عن التخلق بأخلاق غيركم، وتمتعوا فى رخاء بلادكم، وسعة أرزاقكم، واحمدوا الله على ما أتاكم». 
ولا ريب فى أن المويلحى قد أحسن ختام حديثه، وبين مقاصد خطابه الذى استحال إلى مشروع على يد تلاميذه، وإذا كان المويلحى لم يحسن الحبكة الدرامية لنهاية المقامة وخاتمة الأحداث فمبرره فى ذلك يمكن استنباطه من عتبة نص المقامة، ألا وهو لفظة (حديث) والحديث لا ينقطع بل يستأنف بأقلام من يؤمنون بمضمونه، ورسالته، والسؤال المطروح: هل جيلنا منهم؟ ولم يعد للحديث بقية...