الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

واحة الخميس.. جمال عبدالناصر (8)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أعترف أننى ما كنت أعلم هذا الكم الهائل من المعلومات عن جمال عبدالناصر قبل أن أشرع في جمع المادة التى اعتمد عليها في كتابة هذه السلسلة من المقالات، والتى آثرت أن تكون من عدة مصادر مختلفة ومتنوعة، ولا شك أن معظم الناس لا يعلمون الكثير عن رحلة كفاح جمال عبدالناصر قبل ثورة 52، تلك الرحلة التى نستطيع من خلالها أن نضع أيدينا على سمات هذه الشخصية التاريخية الفريدة من نوعها، والتى ظلت مثيرة للجدل والخلاف حتى يومنا هذا، رغم مرور ما يقرب من نصف قرن على وفاته، لقد كان بمقدور هذا الضابط الشاب أن يكمل حياته كأى ضابط آخر، لا سيما وقد حصل على شهادة أركان حرب وأهله ذلك للترقى وزيادة راتبه الشهرى الذى استطاع به أن يتزوج ويؤجر شقة كبيرة وأن يشترى سيارة، ولكن هذه الأشياء لم تجعله يتغاضى عن سؤال مصيرى كتبه في رسالة لصديقه حسن النشار، وهو: هل لجيلنا أن يموت ويدفن ليرث أبناءه الاستعمار الإنجليزي الذى ورثناه عن آبائنا؟ أم من الشرف والعزة أن نستشهد ونحن نحاول تحرير أوطاننا؟ لقد كان جمال يعى أنها محاولة انتحار، ولكنها أفضل من حياة الذل التى رآها بعينيه أثناء اشتراكه في الحرب العالمية الثانية حين حارب الجيش المصرى جنبًا إلى جنب مع قوات الاحتلال الإنجليزي في حرب لا ناقة لمصر فيها ولا جمل، ووقتها تساءل جمال: لماذا نحارب لصالح المستعمر، هل ليظل جاثمًا على أرضنا أمد الدهر؟ وهنا تولدت لديه فكرة تكوين تنظيم الضباط الأحرار، وقد تحدثنا عن ذلك تفصيلًا في المقالات السابقة، ووصلنا في المقال الأخير إلى قرار جمال تحويل العمل السرى إلى عمل معلن، ولا شك أن هذه الخطوة كانت بمثابة مغامرة كبرى لا يقدم عليها إلا من يحمل رأسه على كفه ولا يخشى الموت، وكانت فلسفة جمال في الإعلان عن تنظيمه تعتمد على بث الخوف والذعر داخل نفوس الأعداء، وفى نفس الوقت بث روح الاطمئنان في نفوس ضباط الجيش لينضموا جميعًا إلى التنظيم، فالملك ورجاله والخونة من أعوان الاستعمار وأصحاب المصالح قد أصابهم الذعر حين وجدوا منشورات توزع في مختلف شوارع القاهرة موقعة باسم الضباط الأحرار، واستقر بداخلهم أن هذا التنظيم ما كان سيجرؤ على فعل هذا لو كان ضعيفًا، وتولد لديهم الشعور بأنه يتوغل ويتشعب في كل فئات الجيش، وجاءت انتخابات نادى الضباط لتكون قاسمة الظهر للملك ورجاله، حيث دفع الضباط الأحرار بمرشح لهم هو اللواء محمد نجيب في مواجهة حسين سرى عامر مرشح الملك، وانتهت الانتخابات بفوز ساحق لنجيب ولأعضاء التنظيم الذين ترشحوا في مجلس إدارة النادى، وكان من الطبيعى أن يثير هذا غضب الملك وغضب مرشحه الذى كتب مقالًا هدد فيه وتوعد المجموعة التى تسمى نفسها بالضباط الأحرار، وأقسم على النيل منهم ومحاكمتهم جميعًا، وبالفعل أعد قائمة ببعض أسمائهم المعروفة وقدمها للملك، وهنا قرر جمال ورفاقه اغتيال حسين سرى عامر، ولكنها كانت محاولة فاشلة وهذا ما انتهينا إليه في المقال السابق، وقد تواكب هذا كله مع حادث غريب ظل حتى اليوم أحد ألغاز التاريخ، ففى صباح 26 يناير 52، استيقظ سكان القاهرة على حريق هو الأكبر من نوعه، فقد التهمت النيران خلال ساعات قليلة، ما يزيد على سبعمائة محل وشركة وبنك وفندق، وصارت ألسنة الدخان تغطى سماء القاهرة بأكملها، ومات العشرات في هذا الحريق المدمر، وأصيب المئات وانتهى الأمر بإعلان الأحكام العرفية في البلاد ومنع التجوال ونزول الجيش إلى الشوارع للسيطرة الأمنية، أما التحقيقات فقد أشارت إلى وجود عناصر مدربة قامت بإلقاء عبوات المولوتوف في أكثر من مكان وفى توقيت واحد، وذلك قبل بزوغ فجر ذلك اليوم الذى حدده طلاب الجامعة للخروج في مظاهرة كبرى، منددة بما حدث لضباط البوليس في الإسماعيلية على يد قوات الاستعمار الإنجليزي، فهل كان الإنجليز وراء الحريق بعد إلغاء معاهدة 36، لإحراج النظام المصرى وللإطاحة بحكومة الوفد الراعية للجهاد في مدن القناة، أم أنها خطوة انتقامية من جماعة الإخوان التى لم تثأر بعد لمقتل مرشدها حسن البنا، وأرادت التعبير عن سخطها جراء ما حدث بالأمس في الإسماعيلية، أم أنها يد الملك الذى خاف على عرشه أن يهتز لو خرج الطلاب في مظاهرة حاشدة قد تتحول إلى ثورة تعيد للأذهان ما حدث في 1919، وعلى أى حال فقد بقى الفاعل مجهولًا حتى اليوم، أما جلالة الملك فقد احتفل في مساء ذلك اليوم بسبوع مولوده، وخطب في المدعوين دون الحديث عن الحريق الذى كان دخانه يملأ صدور ضيوفه في قصر عابدين، وفى اليوم التالى أصدر قراره بإقالة وزارة الوفد، مما يؤكد أن المؤامرة دبرت بليل للخلاص من الوفد الذى كان وزير داخليته قد أعطى الأمر لضباطه بقتال الإنجليز في القناة، وأما جمال ورفاقه فقد شعروا بقلق بالغ بعد إعلان الأحكام العرفية، وظنوا أن حسين سرى عامر قد وشك تنفيذ وعده، وأن الملك سيستغل هذه الحالة للخلاص منهم، وقد ظهرت بوادر ذلك حين قرر الملك فجأة إلغاء انتخابات نادى الضباط.. وللحديث بقية.