الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

عيسى بن هشام بين الخطاب والمشروع «7»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم ينس محمد المويلحى أنه تعلم على يد الأزهريين، وأنه قرأ عليهم متون أمهات كتب اللغة والفقه والحديث، وأن لسانه لم يستقم إلا بتوجيهات أساتذة النحو والعروض. غير أنه تذكر أيضًا قدر بغضه لأساليبهم العقيمة فى التحصيل والتدريس والكتابة انطلاقًا من رغبته الصادقة فى تقويم ذلك الصرح الإسلامى العريق، فراح يلج الأبواب الموصدة وينقض قلاع الرجعية التى توهم ساكنيها بأنهم ما فيه من جمود وعزلة ومقاطعة لكل جديد وشجب وتكفير كل مبتدع هو أفضل المتاريس للحفاظ على الدين ورد كيد الكائدين الغربيين من جهة، وصونًا لتراث الأولين وحماية لعلوم الأقدمين من جهة الأخرى. 
وأعتقد أن حديث عيسى بن هشام يعد من أوائل المقامات التى تهكمت على مجالس الأزهريين وأحاديثهم، فها هو يواصل انتقاداته لهم، فذكر على لسان أحد الحضور فى مجلس علماء شيوخ الأزهر اذكروا لى بالله عليكم: «ماذا حصَّل طلاب هذه العلوم الجديدة منها؟ وماذا أفادوه؟ وهل سمعتم يومًا أن أحدهم نفع الناس فوضع متنًا، أو شرحًا على متن، أو حاشية على شرح، أو تقرير على حاشية، أو اختصر مطولًا أو طول مختصرًا؟».
ويضيف شيخ ثاني: «كان يجوز لنا السكوت عن مُنكرهم لو لم يتعرضوا لنا ويعرضوا بنا فى ما يسمونه بالجرائد، فيملئوها بالانتقاد علينا والقدح فينا، ويتطفلوا على موائد اللغة الشريفة ويفخروا بأنهم برعوا فى فصاحة الوعظ والإرشاد، ونبغوا فى جميع العلوم وسبقونا إليها، وإنما الجرائد أيضًا بدعة من البدع، وفتنة من الفتن، ولو شئنا لكتبنا وأملينا.. ومع ذلك ففى كثير ممن طلب علينا العلم وسولت له نفسه الكتابة فى الجرائد قد فاقهم فى طريقهم وخطأهم فى ميدان فصاحتهم.. إننا لو أردنا لكتبنا ولو عمدنا إلى الكشف عما تكنه الصدور من أنوار العلوم لأخرسنا كل ناطق وأزرينا بكل كاتب، ولكن ليس من الحكمة أن نبدل الجوهر لمن لا يعرف قيمته، ولا الوعظ لمن لا يراعى حرمته».
وقد اختتم عيسى بن هشام حديثه عن ما جرى فى مجالس الأزهريين من صلف وكبر يأباه العقل والدين. أما صديقه أحمد باشا فراح يلتمس أخبار الأزهريين فى مجلس آخر أثناء دعوة البطلين إلى عرس أحد أبناء المعارف والأصدقاء، وذكر أن الأفراح أصبحت مجالا للتفاخر بالمأكولات والمشروبات، ومن جاء من الأعيان والكبراء والعلماء، ولا سيما شيوخ الأزهر الذين اعتادوا الانصراف عقب انتهائهم من تناول الطعام والشراب، مصداقا لمثل طالما رددوه «يد فى الكباب ورجل فى الركاب»، وحجتهم فى ذلك نقلية مصداقًا لقوله تعالى: «فإذا أطعمتم فانتشروا»، وعلتهم فى سرعة الانصراف فى تحريمهم سماع الموسيقى والغناء.
و لم يفت أحمد باشا توضيح موقف الشريعة من الغناء فى الأفراح، وذلك بمناقشته مع أحد الحضور من شيوخ الأزهر النبهاء الذى لم ينصرف فى ركاب رفاقه، وها هو نص المحاورة التى جرت بينهما. الباشا: إنى أريد أن اهتدى بهديك فى باب سماع الغناء وتقرير كراهته أو إباحته، فلا تبخل علينا بفضلك وعلمك، والوقت وقت مسامرة، فإن أردت أن نقضى جانبًا منه فيما ينفع ويفيد، فقد أديت واجبًا عليك فى الدين، وجعلتنا لك من الشاكرين. 
أما الشيخ فقد أسهب فى شرحه وتوضيحه أن الشرع لا يحرم الموسيقى ولا الغناء، وعليه فالغناء مباح ويُطرب لهما الحيوان قبل الإنسان، وأن علم الموسيقى مدخل إلى الحكمة العقلية وإحدى آليات تهذيب النفس، وأن الذى لا يتأثر بهما أقل من الأنعام شأنًا وأنقص من العقلاء تحصيلًا وفهمًا. أضف إلى ذلك أن الموسيقى من الفنون الراقية عند الفلاسفة والخطباء والوعاظ الذين يستعينون بها لاستمالة السامعين، وذلك فضلًا عن الأناشيد الحماسية العسكرية، واستعمال الغناء والموسيقى كدواء لشفاء بعض الأمراض. وجملة القول فى هذا الباب: «إن الخالق جلت عظمته قد جعل من فضله ونعمته على الإنسان لكل حاسة لذة، فلذة النظر فى تناسق المرئيات وترتيب أجزائها، وذلك هو الجمال، ولذة السمع فى اتساق الصوت وحركته وتوقيعه، وذلك هو الغناء. وأما القول فيه من جهة الدين، فقل أن تجد دينًا من الأديان فى أنحاء العالم إلا ويستعان فيه على العبادات بالترتيل والترنيم والتنغيم، لما ينشأ عن ذلك من صفاء النفوس، وانتعاش الأرواح، للتجرد والاتصال بالعالم الروحاني، وما كان الدين الإسلامي، وهو دين الأذان، لينكر سماع الغناء، ويحكم بكراهته، وشأنه فى فطرة الإنسان على ما بينته لك، وناهيك بما ورد فى الخبر الصحيح أن النبى- صلى الله عليه وسلم- سمع نسوة يتغنين فى وليمة عُرس، فلم ينكر ذلك عليهن..» أضف إلى ذلك ما روى من خبر عمر بن الخطاب وعبد الله بن جعفر ومعاوية بن أبى سفيان وعمرو بن العاص وسكينة بنت الحسين وعطاء بن أبى رباح وموقفهم جميعًا من الموسيقى والغناء، فلم يرو عنهم أنهم كرهوا أو كفَروا. كما كان لأبى حنيفة جار بالكوفة يغنى فحدث أن أخذه يومًا العسس (الشرطة) وحُبس، فذهب أبو حنيفة إلى الحاكم طالبًا إطلاق سراح جاره المغني. ففعل فلما خرج الفتى دعاه أبو حنيفة وقال له سرًا: ألست كنت تغنى كل ليلة «أضاعونى وأى فتى أضاعوا؟ فهل أضعناك؟»، قال: لا والله ولكن أحسنت وتكرمت أحسن الله جزاءك، قال أبو حنيفة: فعد إلى ما كنت تغنيه، فإنى آنس به، ولم أر به بأسًا، قال: أفعل إن شاء الله. هذا جملة ما يذكر فى طرب الغناء طولت فيه وأسهبت، ليتبين لك منه القول الراجح، والوجه الصالح».
فابتهج أحمد باشا وسر برد الشيخ الأزهرى المستنير مرددًا هذا هو الأزهرى الحق وعالم الدين الذى يعبر عن حقيقة الإسلام، وذلك بقوله: ما هذا الذى أراه من بحر العلم المتدفق والفكر المتعمق؟ وما هذا الإبداع والتفنن فى أطراف المعقول والمنقول؟ وما هذا التضلع فى علوم الأولين والآخرين؟ وما عهدت قبل اليوم فى العلماء من اجتمع له مثل ما اجتمع للشيخ من دقة النظر.... يتنقل فى تقرير البرهان وشواهد البيان تنقل النحل على جنى الأزهار. فيخرج بنا من التاريخ اليونانى إلى الرومانى إلى الأوروبى إلى الإسلامى، فعجبًا له: أأعجمى وعربي؟ وشرقى وغربي؟ وكيف انفردت أيها الشيخ عن بقية إخوانك المشايخ؟
فأجاب الشيخ الأزهري: «ما فى الأديان دين يحث أهله، ويحض بنيه على طلب العلم والتقاط الحكمة بأى وجه من الوجوه، مثل الدين الإسلامي، ولكن قد فشا فى علمائه داء الكسل، فاقتصروا فى طلبهم للعلم على نيل رتبة العلماء دون العلم فى ذاته، واعتقدوا أنهم على الهدى ومن سواهم فى ضلال».
ويتضح مما سبق أن انتقادات المويلحى للأزهريين لم تكن ثائرة المبغض أو كراهية الحقود، بل كانت نقود المصلح الغيور على مجد وتمدن ورفعة وتقدم أقعدته أيادى الرجعية وقضبان الجمود عن أداء رسالته فى إصلاح المجتمع وتجديد الدين.وللحديث بقية..