الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

يوميات.. طابا الجميلة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أكتب لكم على مقعد طائرة ترتفع فوق الأرض حوالى عشرة آلاف متر- كما أعلن الكابتن منذ قليل- أساوم نفسى ببعض حلوى فضول الكتابة كى أتوقف عن استراق النظر لنافذة الطائرة من أعلى كتف زميل سفر ألماني، يجلس زميلى إلى جوار النافذة، يسألنى كثيرًا بلغته الإنجليزية المرتبكة التفاصيل عن تلك التضاريس التى تظهر على الأرض كل فترة. يصر بشكل يستفزنى على أن أعلمه نطق أسماء الأماكن كما ننطقها هنا فى مصر، أرددها وسط جمل إنجليزية فيرددها بعدى مرات حتى تشبه قليلًا لكنتى العربية المصرية، يبتسم منتصرًا، أبتسم بدورى مجارية بهجة الطفل الذى تعلم كيف يمشى فى عينيه الزرقاوين المجهدتين، لم ينم أى منا بالتأكيد. لم تكن تلك المرة الأولى التى أصادفه فيها. كان نزيلًا فى ذات الفندق الذى قضيت فيها إجازتى القصيرة. قال وهو يصر على أن تقدم المضيفة الشاى لى قبله: «البلد الجميل أهله جميلون» ولم يعنِ شيئًا سوى أن يفرغ تلك الطاقة السحرية التى شحنته بها مدينة جميلة «طابا».
ظلت طابا لفترة ليست بالقصيرة هى المكان الوحيد تقريبًا الذى لم أزره فى مصر لسبب لا أعلمه، كنت كلما خططت لرحلة قصيرة لها يحدث أمر ما، فمرة مرضت إحدى صديقات السفر، وأخرى لم أجد تذكرة طيران متاحة وقت إجازتى التى صادفت فترة تخمة شركات الطيران، وثالثة هاجمتنى أعباء عمل كانت كامنة حتى حجزت لرحلتي. بقيت طابا بعيدة فى خدرها تنتظرنى فى دلال فتاة عربية تعد القهوة لضيفها كل يوم حتى لو لم يأتٍ الضيف أى يوم. قررنا فجأة هذا العيد أنا وصديقات السفر ألا نخطط لزيارة طابا بل أن نجعلها هى تخطط لزيارتنا، ولم نعلم أن هذا أفضل ما تفعله حين تزور هذه المدينة. لا سيما أن ذاكرتنا كانت عابقة حد التخمة بشواطئ إحدى الجزر اليونانية الممتدة على سفوح تلال سكبت عليها السماء جنة من الأشجار. فكان حماسنا يفتر كلما راودتنا طابا عن ذاكرتنا الحبلى بجمال متوسطى أوروبي. قبل العيد بيومين. فى الوقت المفضل لى كى أسافر. الساعات الخمس الأول من اليوم بعد منتصف الليل. انطلقت طائرتى نحو طابا. لم أكن أعلم أننى أحتاج لأكثر من الأجنحة وأنابيب الأكسجين كى أقتحم مكامن الفتنة فيها. كنت أحتاج لكل طاقتى وكل أفكارى وكل تمارين الإحماء التى تعملتها كى أبدأ الركض حبًا.
أخبرنى الجميع بأننى على وشك زيارة مدينة أقوم فيها بعمل Detoxicating لعقلي، طرد للسموم من عقلي، لأننى سأجد طبيعة ساحرة تأسرنى لتأملات عميقة ربما تجعلنى أسيرة لخيالات عربية بيزنطية لفترة. أبت دمائى نصف السكندرية، التى لا ترى فى البحر الأحمر أمام البحر المتوسط إلا بحيرة راكدة لا موج فيها، أن تستسلم للفكرة. حتى خرجتُ من المطار. تحفل مرتفعات طابا منذ اللحظة الأولى بألوان مغناطيسية التأثير ذكرتنى بتلك التى رأيتها ذات غروب حين خيمت فى سروات الحجاز منذ بضع سنوات. حافلة بمعادن ذهبية وحمراء وخضراء تعكس لون السماء الأزرق فتصيبك بدوامة حقل مغناطيسي. ابتسمت صديقتى وقالت: «كأنى شايفة لمعة فقاعات صابون صخرية». وكان معها كل الحق. سألت موظف الاستقبال الوسيم الأنيق فى الفندق: «تنصحنى أبدأ بإيه؟ معايا أربعة أيام؟» فسألني: «بتسافرى كتير؟» قلت له: «أيوه» فرد قائلًا: «ابدأى بجزيرة فرعون. هناك هتشوفى من قلعة صلاح الدين حدود أربع دول مصر اللى انتى فيها وفلسطين والأردن والسعودية، وهتخرجى منها تروحى أطلال كنيسة بازيلكا البيزنطية وشوية آثار من أيام الفراعنة لدلوقتي. الجزيرة أصلًا جزيرة من شعاب مرجانية وبيسموها جزيرة المرجان. شفتى كده فى أى مكان فى العالم؟» ابتسمت فقال: «أديكى هاتشوفيه وهاشوفك بعدها النهاردة» لم ننم. انطلقنا نحو الجزيرة التى كانت تستحق نهارًا كاملًا منذ السابعة صباحًا وحتى الخامسة مساءً. عدنا نحاول لصق مفاصلنا بالثرثرة حتى نصل لغرفنا. نادانى موظف الاستقبال «كريم» سألني: «إيه الأخبار؟» ابتسمت ولم أجب. فقال: «مش قلتلك؟» وأعطانى كتيبًا صغيرًا لمعالم طابا. أخبرنى بأننى سأجد جمالًا كل لحظة، لكنه اليوم أراد أن أبدأ من مكان لا يوجد له مثيل من وجهة نظره. 
كان الجو حارًا جدًا وبشرتنا البيضاء المنزعجة من الحر تئن تحت ملابسنا القطنية. لم نستطع أن نغادر غرفنا لأربع ساعات تقريبًا. حتى إننا لم نأكل شيئًا منذ تناولنا وجبة الطائرة. استسلمنا لراحة بلا نوم، ثم خرجنا لصحبة القمر. سمى الفراعنة «سيناء» بهذا الاسم نسبة لضوء القمر فى اللغة الهيروغليفية، وأدركت أنها حقًا «سيناء» منذ زيارتى الأولى لها، وكانت للجميلة «دهب». يبدو القمر كبيرًا جدًا هناك وقريبًا من الأرض جدًا. ربما هى ظاهرة طبيعية تقوم على مبدأ النسبة والتناسب إذ إن المسطحات المائية الصغيرة، كخلجان شواطئ سيناء، يكون القمر فوقها أكبر من نظيرتها الكبيرة بالنسبة لحجمها. لم أرهق نفسى بالتفكير كثيرًا لأن الجوع كان أكبر من ذلك. عشاء قمرى وقهوة قمرية يستحقان وحدهما أن تزور طابا.
تبدأ الحياة مبكرًا جدًا فى هذه المدينة لأن جمالها يعتمد كثيرًا على الشمس، جمال يعد إخفاء الضوء عن أى جزء منه جريمة تستحق العقاب، فهو جمال نوراني. لا يكفى أى ضوء لكشفه سوى أكبر ضوء تراه الأرض «الشمس». مرت الأيام الثلاثة الأخرى ساحرة حتى إننى من فرط الاسترخاء وإدمان تمارين صيد الجمال كدت أفقد الذاكرة. طابا حيث قلعة زمان ومتحف طابا وخليج فيورد ومرتفعات طابا التى سألت عن إمكانية التخييم فيها لكنهم أجابونى بأن الأمر أخطر من البقاء ليلًا هناك. ستذهلك محمية طابا بمغامرات شيقة فى كهوف عجيبة ممرات جبلية تجعلك ترتدى قبعة إنديانا جونز فى سعادة حتى تصل للوادى الملون، لتقع تحت تعويذة متاهة الصخور الرملية الملونة. يمكنك طوال الوقت أن تحظى برحلات مرجانية تحت الماء، تتنفس فيها جمال الأسماك الزجاجية وكائنات بيكاسو وزميلاتهما.
صنعتُ ذكريات جميلة لا بد أن تنال من جمال سفر قريب خططت له لشاطئ إسباني. لا أظن أن شيئًا سيكون بكرًا كهذا، ولا شرسًا فى جماله مع دعة وبراءة فى توجيه الدعوة إليك لمصاحبته كجمال طابا. ها هو زميل السفر الألمانى يسألنى عن هذه المدينة التى أطلت من نافذة الطائرة، أخبرته بسعادة: «القاهرة» فابتسم من جديد مرددًا خلفى «القاهرة». سنتأكد من ربط الأحزمة. كان إقلاع الكابتن ممتازًا وأظن أن هبوطه سيكون كذلك.