السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

عيسى بن هشام بين الخطاب والمشروع «5»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم تخل انتقادات محمد المويلحى لأحوال القضاء وما يجرى فى المحاكم من مفارقات سخيفة ومشاهد عنيفة وسلوكيات وضيعة، ولا سيما فى المحاكم الشرعية التى اختصت بقضايا النساء بداية من إثبات الأنساب ومرورًا بقضايا النفقة وسطو الأسافل على حقوقهن وجنايات الآباء على الأبناء عقب الطلاق وتشريد الأسرة وانتهاءً بتتبع القوادين للنساء اللواتى أعياهن العوز من تهرب أزواجهن من النفقة والرعاية وصون أعراضهن. ولعل أطرف ما جاء فى حديث عيسى بن هشام فى هذا السياق هو ما أورده على لسان إحدى النساء الساخطات على حال النساء المصريات فى ظل القوانين المهدرة لحقوقهن «لو كان للنساء قضاة من النساء، لما وصلنا إلى هذه الحالة التعيسة، فإن الرجال يميلون لجنس الرجال، ويتناصرون لبعضهم على المنكوبات من أصحاب القضايا والمنازعات «وأعتقد أن المويلحى بذلك التلميح يعد أول من دعا للقضاء النسائى ومحكمة الأسرة - فى العصر الحديث - وهو من أوائل الكتاب أيضًا الذين دافعوا عن حقوق المرأة المنتهكة فى المجتمع الذكورى ذلك على الرغم من اختلافه مع قاسم أمين فى دعوته المبكرة للسفور.
وينتقل عيسى بن هشام إلى قضية أخرى من قضايا المجتمع المصرى بعد انفراج أزمته وذلك بحصول صاحبه على حكم البراءة من محكمة الاستئناف.
وحدث أن صاحبه قد ابتلى بمرض أرقده عن المضى فى رحلته. فأحضر له أحد الأطباء ليكشف عليه ويصف له الدواء، فأدرك عيسى لأول وهلة أنه لا هم للطبيب سوى الأجرة، وكتب له قائمة من الأدوية الشائعة المعتادة، ولم يكلف نفسه عناء الفحص والتحقق من نوع العلة، بل كان أحرص على إلزام المريض بشراء الدواء من صيدلية بعينها حتى تزول العلة، فقد أمسى الطبيب والصيدلى شريكين وبات المرضى زبائن، متناسين بذلك الفعل الخسيس أخلاقيات المهنة ورسالة الطبيب. وقد تفشت هذه الرذيلة بين الأطباء الأجانب والمصريين على حد سواء، وقد اتضح لعيسى بن هشام ذلك بعد عقده كونسولتو من الأطباء للفصل فى علة صاحبه والدواء الشافى له، فقد مل من تردد الأطباء على اختلافهم وتباين مراتبهم وأجناسهم دون جدوى، وقد ساءه جدًا ما سمعه منهم وما دار من همس أحدهم فى أذن زميله، وها هو عيسى ينقل لنا صورة حية من ذلك الانحطاط وتلك البذاءة «جاء فى خاطرى أن أجمع منهم جماعة للاستشارة والمداولة، لنخلص من هذه المراوغة والمطاولة، فلما اجتمعوا وقعوا فى الحجاج واللجاج، ولم يتوافقوا على تشخيص الداء أو تقرير العلاج... وسمعت بينهم من يقول لرفيقه: لا ينبغى أن نوافق فلانًا فى تشخيصه، كما أنه لم يوافقنا على رأينا فى الاستشارة الماضية، وأنكر علينا جميع أدويتنا الشافية. وقد لمح عيسى بن هشام من بين أطباء الكونسولتو طبيبًا رزينًا متأففًا من حديثهم وغاضبًا من أفعالهم، فانفرد به بعد انصرافهم وأخذهم الأجرة، وسأله أن يصدقه القول فى حالة مريضه، فأجابه: «إن علة المريض بسيطة فيما آراه، ولعلها ناشئة من انفعالات نفسانية، ومعالجة الأطباء كانت بغير اهتداء، ولم يلزم لعلاجه إلا الامتناع عن هذه المركبات، والاكتفاء ببعض البسائط من النبات مع جودة الغذاء وتبديل الهواء، فشهدنا حينئذ بمهارته، ولم يمض إلا بضعة أيام حتى انتقلنا من دور السقم والاعتداء إلى دور النقاهة والاعتدال».
وقد حرص الباشا المريض على تحديد علة انحطاط مهنة الطب والتمريض، فأجابه الطبيب المعالج قائلًا: السبب فى خطأ الأطباء، أن العدد الأعظم منهم يسيرون فى ممارسة صناعتهم على طريقة معينة ودائرة محدودة قررتها العادة فيهم فهم لا يتخطونها ولا يتعدونها، فترى كل واحد منهم يحصر فى ذهنه عدة أمراض معلومة، بقطع النظر عن الفحص والتأمل فى حال المريض، أو البحث والتدقيق فى معرفة الأسباب المادية والنفسية التى يرجع منشأ المرض إليها، فلذلك يكثر منهم الخطأ ويقل الصواب.... وأن من بين هؤلاء الأطباء من لا يرى فى صناعته إلا آلية لاجتلاب الرزق واصطياد الربح واكتناز الأموال حتى يصبح فى مصاف الأغنياء والأثرياء، وهو يدخل على المريض طامعًا فى ماله لا راجيًا شفاءه، فيحتال لتطول مدته فى المرض، فيتسع نصيبه فى الأجرة، فيعطيه من أصناف الأدوية ما لا ينفع ولا يضر، فيرسله إلى الصيدلى الذى يرصده فى دفتر شركتهما ليقاسمه أرباح تلك الأثمان الفادحة لتلك الأدوية المتكررة، فيضرب الطبيب فى صناعته بقدحين.... ومنهم من يجيد رقة الحديث والمسامرة وبتقلب فى أساليب المؤانسة والمجاملة وأفانين المغامزة والمغازلة، ليقيم له بين النساء بضاعة رائجة، وسوقًا رابحة، فيحل من أهل الحرم محل الجليس المحبوب والأنيس المطلوب، وينزل منهن بمنزلة المحب المكرم، ويكون بين حرملك القصور، أكرم زائر فى أرحب منزل والنساء لا يعدمن العلات على العلات ولا تعوزهن العلل فى اختراع العلل، ولا سيما أن كانت دعوى المرض، تدنى من نيل الغرض، فيكون للطبيب بينهن زيارات وعيادات وروحات وغدوات، كما يعلم الناس أنه مؤتمن الجانب يؤتمن فوق الأهل والأقارب، تفتح أمامه الأبواب، ويكشف دونه الحجاب، فترى له زيارات بين كل صباح ومساء فتكتب له بوفر الأجر فى دفتر حسابه، وبسوء الجزاء يوم عرضه وحسابه.
ويدعو عيسى بن هشام القائمين على أمر البلاد الإسراع فى صناعة الدواء وذلك لأن تراكيب العقاقير الدوائية تصنع تبعًا للبيئة العلاجية، الأمر الذى يقتضى بضرورة قيام المصريين بصناعة أدويتهم استنادًا على فحص دقيق لطبيعة أبدان المرضى والمناخ الذى يعيشون فيه وطعومهم ومشاربهم وذلك عوضًا عن الأدوية الأجنبية المستوردة. ولعل عيسى بن هشام كان أكثر خبرة وأوسع ثقافة وأدق علمًا من غيره فى تصديه لهذه المسألة، أعنى المطالبة بالاعتماد على الأدوية المحلية عوضًا عن الأدوية الأجنبية. وأعتقد أنه لم يغب عن ذهنه الآثار المترتبة على ذلك. ويؤكد عيسى بن هشام فى نهاية حديثه عن الطب والصيدلة والأطباء أنه تعمد فضح ظاهرة أوشكت أن تتفشى فى المجتمع المصرى بين أناس سيرتهم عطرة وضمائرهم يقظة وأرواحهم ملائكية لخدمة البشرية ويقول: «وأية رتبة من مراتب الخلق تماثل رتبة الطبيب العامل، وهو القيم على قوام الأبدان، والكفيل بصحة الأجسام، والرقيب على اعتدال الأمزجة، والمشرف على سلامة الجوارح وهى أمس الصناعات بخلقة الصانع الفاطر، لمن يدرك كنة هذه الصناعة من الأطباء، أن يرغب عن تلك الدرجة الرفيعة إلى الدرجة الوضيعة، فينزل بضاعته إلى مصاف أهل التجارة والسلع»، وأعتقد أنه لا محل لتعليق بعد هذا الحديث عن تلك الظاهرة التى مازالت تعيينا وتمرضنا منذ أكثر من مائة عام. 
وللحديث بقية عن ظاهرة أخرى وموقف المويلحى منها.