الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

تقارير وتحقيقات

مسنون ومنسيون.. عم أحمد: "عمري ضاع مع زوجة ماصانتش العِشرة وأبناء أنكروا تعب السنين".. "بيوت".. نزلاؤها مجبرون وليسوا مخيرين.. والسبب جحود الأبناء.. "فوزية": "ضعت في زحمة الحياة وقسوة الأولاد"

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
عالم المسنين، حكايات مريرة وقصص مأساوية ساخنة ومبكية، مئات منهم يقبعون خلف الجدران بدموع تتساقط دائما على الخد حزنا على حالهم، من يراهم عن بعد لا يشعر بما يشعرون به من هموم ووجع وأنين، كل منهم بطل لقصة تقشعر لها الأبدان، جميعهم سقطوا فى أسر الصمت والكآبة وجلسوا ينتظرون خروجهم من الدنيا بهدوء لينعموا براحة تخلصهم من ظلم ذويهم الذين أسقطوهم من دفتر الاهتمام. 
تنتشر بيوت المسنين فى كافة أنحاء الجمهورية بالعشرات، نزلاؤها «مجبرون» وليس «مخيرين»، أغلبهم جمعتهم وحدتهم القاتلة، الدار الواحدة تضم أكثر من ٥٠ مسنا، برنامجهم اليومي، لا يخرج عن النظام الروتينى التقليدى والمنحصر فى تبادل الأحاديث صباحا ومساء، كل يوم يمر على البعض منهم بمثابة سنة، خاصة فى المناسبات كالأعياد، أغلبهم يقضون وقتهم الممل فى قراءة الجرائد أو مشاهدة التلفاز، هم لا يحتاجون ذلك فقط، جميعهم يتطلعون بشغف إلى زيارة الأهل فى الأعياد والتشبع بمشاعر ودفء الحياة، لكن أحدا لم يأت. 
العيد بالنسبة لمعظم نزلاء دار المسنين، من أصعب الأيام التى تمر عليهم، هو: يذكرهم بوحدتهم وبنسيان العالم الخارجى لهم، وهم أيضا: لا يعيشون الحياة الطبيعية، يعيشون العجز والجحود معا، ويعانون فى الوقت نفسه فقدان الفرحة بالعيد.

مأساة فوزية 
السيدة فوزية أحمد، فى نهاية العقد السادس من عمرها حكت قائلة: «تعودت على الدار ولم أفارقها طيلة سنواتى الماضي، لا أحد يسأل عنى»، وتابعت: «منذ طفولتى وأنا وحيدة لم أعرف معنى اللمة وأن يكون لدى أب وأم يشعران بالدفء، ماتا وتركانى أعانى الأمرين».
وقالت: «نشأت وتربيت فى دار أيتام، عشت طفولتى معهم لم أذهب إلى المدرسة ولكن الدار لم تتركنا بل علمتنا ووجهتنا التوجيه الصحيح بعدما كبرت سخرت جهدى لتربية الأيتام وكنت أعاملهم كأبنائى ولم أعرف إلى الآن كيف مضى بى العمر ووصلت إلى هذه السن داخل الدار، كنت أتمنى أن أعيش فى جو أسرى مفعم بالحب والسعادة ولكن تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن».
وتابعت: «عمرى كله ضاع بين ٤ حوائط دون أن أنظر إلى العالم الخارجى بل أصابنى المرض وتملك منى حتى وصل بى فى نهاية المطاف إلى بتر أحد أصابع قدمى بسبب السكر».
وأضافت: «بالنسبة للعيد أرتدى ملابسى وهذا ما عودتنا عليه الدار واحنا صغيرين وأجلس فى حديقة الدار منتظرة أى زيارة من الجمعيات الخيرية أو من أقاربى الذين لا أعرف عنهم أى شيء حتى الآن، وفى بعض الأعياد أستقبل زيارات من أهل الخير وفى أعياد أخرى يمضى اليوم دون مكالمة هاتفية قائلة: هذا أصعب يوم يمر عليّ فى الدار، يوم العيد بالنسبة لأى إنسان يوم بهجة ولمة وبالنسبة لنا هو يوم تعيس للغاية». 

دموع خيرية 

«خيرية عامر» ٦١ عاما، وجع آخر فى دار المسنين، حكت: «لم أكن أتمنى أو حتى أحلم أن يحدث لى ما يحدث الآن رغم ما ضحيت به كأم فى تعب وتربية أولادى الذين الآن أنكروا تعبى وسقط اسمى من دفتر اهتمامهم ونسونى». 
وتابعت: «كانت بداية قصتى ووجودى فى هذا المكان هو نشوب خلاف كبير بينى وبين زوجى وصل بنا إلى الطلاق تاركا خلفه كوم لحم لأقوم أنا بتربيتهم والإنفاق عليهم».
وأضافت، لم يكن لى أى دخل فى البداية، أهلى من تولوا مساعدتى حتى وجدت عملا بمقابل مادى بسيط يكفينا بالكاد، اجتهدت فى عملى حتى تضاعف مرتبى وتفرغت لرعاية أولادى.
خيرية، بعيون باكية لا تفارقها الدمعة قالت: «ظهرى اتكسر مرتين، مرة بعد طلاقي، وفى المرة الأخرى حين توفى والدى، لم يكن بجوارى أحد تخطيت هذه الفترة بصعوبة ولكن وقفت على قدمى مرة أخرى فى سبيل أبنائى فهم هدفى الوحيد فى الحياة، علمتهم ودخلوا أحسن الكليات وتزوجوا وتفرغ لاحقا كل منهم لحياته الخاصة وتركونى بمفردى لأستيقظ على كابوس الوحدة ونومة على سرير فى غرفة ضيقة فى دار مسنين، دون من يسأل عني». 
ونهت خيرية قصتها المريرة قائلة: «العيد من أصعب الأيام لي، أقضى أيامه فى الدار بعد أن كنت أقضى العيد فى جو أسرى، أصبحت وحيدة لا ملاذ لى ولا مفر من وحدتي، أقضى عيدى بين أربعة جدران بدون أبناء بدون فرحة عيد قائلة: لا أشعر الآن بشيء سوى أن عمرى ضاع هباء منثورا».

حسرة فتحية 
«فتحية» سيدة مسنة، لها قصة أخرى فى دفتر النسيان، تسكن الدار منذ ما يقرب من ١٠ سنوات قالت: «حكايتى لا تختلف كثيرا عن حكايات أخريات معى فى نفس الدار، مأساتى بدأت عندما توفى زوجى وتركنى مع ابنى الوحيد». وتابعت بحسرة: «تزوج ابنى وأخذنى للعيش معه بدلا من العيش بمفردى فى البداية رفضت حتى لا أكون عبئا على زوجة ابنى ولكنه أصر وبعد فترة قليلة نشبت خلافات كثيرة بينى وبين زوجته التى خيرت ابنى بينى وبينها وللأسف اختارها بكل نكران وجحود».
وأضافت: «قرر أن يأخذنى لأعيش ما تبقى من عمرى فى دار المسنين وباع شقتى التى كنت أسكن فيها، لم أكن أتوقع أن ابنى الوحيد والذى أضعت عمرى لأجله يتركنى فى دار مسنين بين غرباء لا أعرفهم»، صارخة: «مش عايزة أشوف وشه تانى وعايزاه ينسى إنى أمه وأنا نسيت إن ليّ ابن». 
حاولت أن أخفف عنها، نقلت الحديث إلى حكايات العيد قالت العيد ثم صمتت وبكت وعادت تقول: «أى عيد يمر علينا هنا بلا طعم مثله مثل باقى الأيام وابنى مش بيهون عليه حتى يتصل عليّ ويقول كل سنة وأنت طيبة، ننتظر فقط كل عيد زيارة من الجمعيات الخيرية، هم فقط من يعطوننا شعورا بأننا ما زلنا على قيد الحياة وأننا بشر».
تعاسة عم محمد 
عم محمد ٦٨ عاما، نزيل فى دار المسنين ومن سنوات، يعتبر العيد مصدر تعاسة قائلا: «العيد من شرع الله لعباده لينعموا بالفرح والسرور بعد عناء طويل لكن هذا يخص الأسر المستقرة والحميمة، أما نحن فى دار المسنين فلا، الجميع هنا لا يشعرون بالعيد هو بالنسبة للجميع فى الدار يوم كآبة وتعاسة لفقدان الأهل والأحباب».
وتابع: «أولادى تركونى وحيدا، رمونى بالدار ومع ذلك ألتمس لهم العذر».
وعم أحمد ٦٠ عاما، قصة كفاح وحزن أخرى قال: «كنت أعمل ممرضا بأحد المستشفيات الحكومية قبل زواجى وبعد أن تزوجت وكونت أسرة أصبح المرتب لا يكفى بحثت عن شغل آخر إضافى لأربى أولادى وأوفر لهم احتياجاتهم، أفنيت شبابى كله فى العمل من أجل راحة أبنائى وزوجتى كنت أحرم نفسى من الأكل لأوفره لهم، سافرت إلى الخارج وزاد دخلى حتى أصبحوا فى أحسن مستوى ودخلوا أفضل الكليات وتخرجوا.
وأضاف: «عندما تقدمت بى السن قررت العودة إلى وطنى وهنا حدث مالم أضعه فى حسباني، حيث طلبت منى زوجتى الطلاق بعد زواج دام أكثر من ثلاثين عاما، فيما تزوج أبنائى وأصبح كل منهم له حياته الخاصة أما أنا فوقفت وحيدا فى الدنيا بلا زوجة وبلا ولد، وانتهى بى المطاف إلى هنا فى دار المسنين، أعيش الآن وحيدا بلا زيارات بلا سؤال، دون مكالمة هاتفية..». 

الأذى النفسى 
يصف الخبير النفسى الدكتور جمال فرويز، الأمر بـ«الجحود» قائلا هذا نوع من الأذى النفسى الذى يلحق بكبار السن فى نهاية حياتهم. 
قال فرويز: إن المسن يواجه مشاكل نفسية عديدة تتمثل فى شعوره بأنه لا فائدة له فى المجتمع وشعوره بالوحدة واليأس.
مؤكدا أن المسن يتأذى نفسيا نتيجة لشعوره بقلة قيمته فى الحياة وأن الناس لا يرغبون فى وجوده وأن حياته انتهت وفى انتظار الموت الذى لا مفر منه.
وشدد فرويز على ضرورة توفير الأشياء النفسية للمسن مثل الشعور بالتقدير وأنه لا زال له كيانه فى الحياة فهو فى حاجة إلى أن يتفاعل مع المجتمع حتى لا ينتابه شعور أنه منبوذ منه وحتى يشعر بقيمته وينمى الجزء الوجدانى فيه.

وأضاف الخبير الاجتماعى الدكتور سعيد صادق، أن ملف المسنين من الملفات المهمة والمهمشة فى كثير مكن الأوقات مطالبا بآليات لحماية الكبار الذين تركهم ذووهم وتقدمت بهم السن، قائلا: «هم لا يجدون الرعاية الكافية، يحتاجون لتعويض ما فقدوه من دفء المشاعر». وتابع، أى دار تستقبل المسن من ٥٥ سنة وما فوقها وبشروط محددة منها أن يكون قادرا على خدمة نفسه ويسدد أهل المسن مبلغا كل شهر مقابل إقامته، لكن هذا لا يحدث على أرض الواقع فى كثير من الدور خاصة حين يتقدم بالمسن العمر ويعجز عن خدمة نفسه وينقطع الأهل عن زيارته، مطالبا بإعادة النظر فى الملف وتعويض كبار السن عما افتقدوه من مشاعر خاصة أوقات الأعياد والمناسبات، قائلا: «هؤلاء الآباء والأمهات فى دار المسنين يحتاجون الكثير مؤكدا أن العبء الأكبر يقع على أصحاب القلوب الرحيمة بالسؤال والزيارات وإدخال البهجة عليهم».