الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

محمود صلاح يكتب: سفاح مصر قبل النهاية.. تنكر في ملابس امرأة!

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أصابت «حمى البحث عن السفاح» مصر كلها!
لم تكن الإسكندرية فقط، بل القاهرة ومصر كلها، التى أصيبت فى تلك الأيام بما يمكن أن يقال عليه.. «جنون السفاح»!
ربما لم يكن محمود أمين سليمان لصًا عاديًا، وربما كان لصًا خطيرًا ذكيًا، لكن الظروف وخيانة الأحباء والأصدقاء، هى التى حولته إلى مجرم خطير يبحث عن الانتقام.
أما الصحافة فهى التى ـ بالتأكيد ـ أشعلت نار حمى المطاردة والاهتمام. والصحافة أيضًا هى التى أطلقت عليه اللقب الذى لازمه حتى النهاية.. لقب السفاح!


وفى صباح يوم ٩ إبريل ١٩٦٠، صدرت جريدة «أخبار اليوم» وهى تحمل على صدر صفحتها الأولى صورة ضخمة لمحمود أمين سليمان، فوقها عناوين مثيرة تقول «اقبضوا على المجرم» و«أخبار اليوم تدعو الشعب للاشتباك فى العمل»


وتحت الصورة كتب الكاتب الصحفى الشهير مصطفى أمين يقول: «إن مهمة القبض على مجرم الإسكندرية ليست واجب رجال الشرطة وحدهم، وإنما هو واجب الشعب أولًا، الشرطة اليوم هى جزء من الشعب، وليست عدو الشعب كما كانت فى الماضي، وليست أهمية مجرم الإسكندرية أنه سارق عادى أو غير عادي، أو أنه قاتل وسفاح، ولكن أهميته أنه رجل خارج عن القانون، والخارج عن القانون فى الشعوب الحرة هو خارج على الشعب نفسه، وهو عدو الشعب إلى أن يتم القبض عليه، والمسدس الذى فى يده ليس موجها ضد الشرطة وحدها، وإنما هو موجه لكل واحد منا، موجه لى ولك، موجه لأبنائى وأبنائك»
وأضاف مصطفى أمين قائلًا:
«لقد أثبت هذا اللص أنه يستهزئ بأرواح الناس، فهو يطلق الرصاص فى الإسكندرية، ويطلق الرصاص فى المنيل، ويطلق الرصاص فى الخليفة، ويطلق الرصاص فى مقابر الإمام، ويطلق الرصاص فى البدرشين وطره»
«وهو لايهمه أن ينجو من السجن، أن يقتل الأبرياء، وأن يسفك دماء الناس، كأن هذا المسدس الذى فى يده يهيئ له أنه فوق الناس وفوق القانون. إنه يريد أن يفرش طريق هروبه بجماجم الضحايا وأشلاء الأبرياء وفى كل بلاد العالم يجند الشعب للقبض على مثل هذا المجرم، وقد ظهر أمثال له فى بريطانيا وفى فرنسا وفى أمريكا وشعر كل فرد فى الشعب أن هذا المجرم خارج عليه.
يجب أن يشعر الشعب أنه مجند للقبض على هذا المجرم، يجب أن يلقى كل معلم وكل معلمة على تلاميذه اليوم، درسا فى وجوب مساعدة العدالة فى القبض على هذا المجرم، ويجب إثارة حماس كل هيئة وكل بيت، ضد الخارج على العدالة والعابث بالقانون!
إن واجب الشعب أن يشترك فى مثل هذه المعارك، لا أن يجلس فى مقاعد المتفرجين!
إن هذا المجرم ليس عدو الشرطة، إنما هو عدو الشعب. وعدم العثور عليه لا ينقص من قيمة الشرطة، وإنما ينقص من قيمة كل واحد منا، وهو دليل على أننا حتى الآن لم نقم بواجبنا، ولم نشعر بمسئوليتنا، التى تفرض علينا، أن نكون جميعا خدام العدالة، والحفظة على الأمن فى بلادنا!
إن واجب كل رجل وكل امرأة، أن يشترك فى هذه المعركة، لأنها معركة شعب، ضد كل الخارجين على القانون!
■ ■ ■


ترى كيف كان إحساس محمود أمين سليمان نفسه، وهو يقرأ كل هذا فى الجرائد، فى رحلة هروبه اليائسة؟؟ بل وكيف كان شعوره عندما قرأ ذلك الخبر الذى يقول «زوجة سفاح الإسكندرية تطلب الطلاق وتقول لا أستطيع أن أعيش مع قاتل».
وهو خبر كتب الصحفى صبرى غنيم تفاصيله قائلًا: نوال زوجة سفاح الإسكندرية ستطلب الطلاق غيابيا من زوجها،
أكدت أنها لن تستطيع أن تعيش دقيقة واحدة مع المجرم القاتل، وقالت لن أنتظر القبض عليه حيا أو ميتا، إننى أفضل أن أعيش حياة راهبة مع أولادى على أن أعيش معه، إنه قاتل يستحق الإعدام، وأنا يحق لى الطلاق منه، وسوف أعتبر نفسى أرملة حتى يتم طلاقى من المجرم.
وأضافت نوال قائلة: «لقد وكلت شقيقى ليرفع دعوى الطلاق باسمى امام محكمة الأحوال الشخصية، وأنا لا أنتظر أن تحكم لى المحكمة بنفقة من أجلى أو من أجل أطفالي، سأبرئه من كل شيء، إننى لا أريده ولا أحبه، لقد تحول حبى له إلى كراهية، أصبحت أكرهه وأكره صورته، إن أولادى أيضًا يفزعون من صورته، بالرغم من أنهما طفلان صغيران، لقد قررت أن أربى إيمان ومجدى تربية شريفة، سأقول لهما لقد توفى والدكما حتى لو كان حيا!»
وفى جريدة أخري..
دافعت نوال عن نفسها وعما كتب عن اتهام زوجها بوجود علاقة بينهما وبين المحامى بدرالدين أيوب وقالت: أنا مظلومة فى كل ما يقال عني أنا شريفة، ومن عيلة بلدى تعرف الشرف وتحافظ عليه، ولم يكن لى أية صلة بالمحامى بدرالدين، أو بالمهندس محمود أمين، لقد تزوجت محمود على أنه تاجر كبير ويمتلك دارا للنشر، وقال لنا والده «ابنى رجل كسيب ومستقيم»، وصدقنا كلام الرجل وقبلت الزواج من محمود، وبدأت حياتنا الزوجية طيبة، كان محمود يحبنى جدا، ويحيطنى بعطفه ورعايته، وكان الخير كثيرا أكثر مما يجب، ومضت الأيام لاحظت أن زوجى يسهر كل ليلة خارج المنزل، وكان يقضى الليالى حتى الفجر فى الخارج ثم يعود لينام متعبا، وبدأت الشكوك تراودني، وظننت أن زوجى يقضى لياليه مع بعض الساقطات وبنات الهوي، وظللت صامتة مدة طويلة ثم صارحته بشكوكي، لكن محمود لم يلتفت لكلامي، قلت له: إنت خاين، وأنا متأكدة إنك تعرف ستات كتير بتقضى كل وقتك معاهم!
ومع ذلك ظل يسهر كل ليلة ولا يعود إلا مع الفجر!
وكان يزعم أنه انشغل فى عمله ومشروعه وذات ليلة قررت أن أثير غيرته وقلت له: ان ما كنتش تبطل سهر، أنا كمان راح أسهر، وألعب بديلى وأعرف رجال غيرك، زى ما بتعرف ستات غيري!
لمعت عيناه ببريق وحشي وقال لي: أنا أقتلك لو شفتك بصيتى لواحد غيري! ومن هذه اللحظة بدأت حياتنا تتغير، وبدأت الشكوك تنتاب محمود حيال كل إنسان، وبدأ يشك فى أصدقائه، فى الجيران، حتى فى الباعة الجائلين، وكان يعتقد أننى على صلة بكل رجل يشاهده قريبًا من شقتنا!
وكان هناك بائع فول متجول يمر من شارع «بوالينو» ثم يقف على ناصية شارعنا ينادى على الفول، قائلا: اللذيذ.. القشطة! وتخيل محمود أن البائع يغازلني: فاندفع كالمجنون إلى خارج البيت، وأمسك بخناق البائع، وظل يضربه بقسوة، حتى أنقذه الناس من بين يديه، ولم يعد بائع الفول يمر فى حينا أبدًا!
لكن الشك أخذ يتملك من محمود أكثر.. وتحول إلى شك خطير.. وبدأ يعذبنى ويسألنى كل يوم عن صلتى بالرجال، وكان يختار أى شخص من أقاربي، ثم يسألنى عن صلته به، فإذا أنكرت إنهال على ضربا وتعذيبا، وتحت قسوة الضرب كنت أضطر إلى تأليف قصص غرامية عن صلتى بالرجال، وكنت أحيانا اختلق قصصا وهمية عن رجال لم أرهم وتحت أسماء وهمية! كنت أريد أن أتخلص من الضرب والعذاب بأى وسيلة! وكان محمود يرتاح بعد سماعه هذه القصص ويتركني، وضمن هذه القصص اعترفت له كذبا بأننى على صلة بالمحامى بدرالدين أيوب، وبالمهندس محمود أمين، رغم أننى لست على صلة بأى واحد منهما. إن محمود مريض.. مريض بعقله وأعصابه. لقد شك فى أقرب الناس إليه، وأقرب الناس لي، لكن جنون ليس سببه الشك وحده، وإنما كان المحامى بدرالدين من أسباب جنونه أيضًا.
إنه الذى ساقه إلى هذا المصير الأسود!
■ ■ ■


وبدا كما لو أن الناس فى مصر كلها أصيبوا بجنون البحث عن السفاح الهارب!
وحذرت وزارة الداخلية كل من يخفى السفاح أو يتستر عليه، بأنه سيتم تقديمه للمحاكمة، كما سيحاكم أيضًا كل من يثبت أنه كانت لديه معلومات تؤدى إلى القبض عليه ولم يتقدم بها للشرطة! وقالت وزارة الداخلية فى بيانها إن السفاح يرتدى الملابس الإفرنجية وأحيانا يرتدى الزى البلدي، وأحيانا الزى العسكري، وأنه يجيد التنكر وإخفاء شخصيته. وكشفت تحريات رجال المباحث أن محمود أمين سليمان يعرف معظم «أرتيستات» الإسكندرية، وأنه اعتاد التردد على الملاهى والكباريهات المنتشرة على الشاطيئ، وكان يتظاهر بالثراء ويحيط نفسه بمظاهر العظمة وكان ينفق فى السهرة الواحدة أكثر من ١٠٠ جنيه ويحتسى الخمر ويقدمه للراقصات، وفى ملهى الكيت كات بالإسكندرية تعرف على إحدى النساء فى الملهي، اسمها آمال قالت إنه لم يكن يجلس مع أى واحدة غيرها.
وقالت آمال إن محمود كان معجبا بها لدرجة أنه طلب منها الزواج. وقال لها: أنت خسارة فى الشغل ده! لكنها رفضت عرض الزواج.. وزعمت أنها شاهدته قبل أيام عندما دخل الملهى متنكرًا، وكان يرتدى بالطو ويغطى وجهه بكوفية، وزعم أنه تاجر من المنصورة اسمه إسماعيل.
لكنها قالت له: إنت محمود.. وأنا عارفاك كويس!
فانصرف فى الحال!
■ ■ ■


وبدأت الحلقة تضيق على السفاح الهارب..
وأعلنت مديرية أمن القاهرة أن الحصار الذى ضربه رجال الشرطة حول تحركاته، انتهى إلى أن محمود سليمان يختفى فى مكان مجهول فى منطقة حلوان! وقالت مديرية الأمن إن السفاح استطاع أن يغير شكله العام، وأنه صبغ شعره بالأوكسجين فأصبح لونه أصفر. بعد أن كان يتميز بالسواد الفاحم. وقالت أيضًا إنه يرتدى الآن جاكيتة زرقاء وبنطلون بين الرمادى والبيج، ولأنه لا يظهر نهارا إلا إذا اضطرته ظروف إدمانه المخدرات أن يذهب إلى تاجر المخدرات لشرائها. وأنه لهذا السبب ذهب إلى منطقة حلوان! وبدا أن النهاية المأساوية لمغامرات سفاح الإسكندرية قد أصبحت وشيكة.
وأن سقوطه سيكون بين لحظة وأخري!
■ ■ ■
كيف توصل رجال الشرطة إلى الخيط الأول الذى قادهم إلى السفاح؟
علم مأمور قسم شرطة بولاق أن أحد اللصوص المعروفين يعرض خاتما للبيع. فأسرع ضابط مباحث القسم ليتنكر فى شخصية صائغ، وتمكن من القبض على اللص الذى تبين ان أسمه محمد سالم. واعترف اللص بأنه أخذ الخاتم وبعض المجوهرات من شيخ بلدة الكعابية مركز أبوطشت الذى اشتراها بدوره من السفاح بمبلغ ١٠٠ جنيه. وقال اللص إن السفاح كان يتردد على مقهى فى بولاق، وأنه على صلة بطالبين من أبوطشت، هما حسام عبده رشوان وأحمد عبده رشوان اللذين يسكنان فى منطقة الدرب الأحمر.
وأسرع رجال الشرطة وقبضوا على الطالبين..
واعترف الاثنان بأنهما تعرفا على السفاح فى المقهي، وأنهما ساعداه على الاختفاء خوفا منه.
واعترف الأخ الأصغر بتفاصيل القصة..
فقال إنه ذات يوم سمع باب الشقة التى يعيش فيها مع شقيقه يدق، وعندما فتح رأى السفاح وكان يرتدى بذلة ضابط، فسأله ماذا يريد لكنه لم يرد وأزاحة بيده ودخل الشقة، وخرج الشقيق الأكبر من غرفته وفوجئ به يرحب بالسفاح وقال لشقيقه الأصغر إنه من أقاربهما!
وفى الصباح شاهد الشقيق الأصغر صورة السفاح فى الجرائد، فأسرع بإبلاغ أخيه وطلب منه ابلاغ الشرطة، لكن الشقيق الأكبر نهره وقال له إن السفاح فى حمايته ولا يصح أن يسلمه!
وسمع السفاح مناقشة الشقيقين!
فأسرع بترك الشقة، لكنه عاد بعد عشرة أيام، وكان يتنكر فى زى امرأة ويرتدى فستانا وعلى رأسه طرحة سوداء ويحمل مسدسا!
وبعد قليل حضر بعض الأقارب من الصعيد، ووزع عليهم السفاح كمية من المجوهرات، وظل فى الشقة ٤ أيام لم يخرج خلالهما، وكان يعطى الشقيق الأصغر كل يوم نقودا.
وأخيرًا غادر الشقة!
■ ■ ■


بعد ٢٤ ساعة
شوهد السفاح فى «غرزة» فى مقابر الدراسة.. ولاحظه اثنان من المخبرين، وعندماحاولا القبض عليه أطلق عليهما الرصاص وفر هاربا! وتأكد السفاح أن القاهرة ضاقت به، وأن رجال المباحث يطاردونه فى كل مكان. وكان الحل الوحيد أمامه.. أن يهرب إلى الصعيد! وبالفعل استقل سيارة نقل على طريق الصعيد، لكن عسكرى مرور البدرشين تعرف عليه، فما كان من السفاح إلا أن أطلق النار تجاهه، وهرب ناحية بلدة الطرساوية، وهناك ركب المعدية إلى كفر العلو على الناحية الأخرى من النيل، فى منطقة حلوان. وأعلنت الشرطة أن ساعة الصفر قد حانت.. وأنه لابد من القبض على السفاح فى حلوان!
■ ■ ■
صدرت يوم ١٠ أبريل ١٩٦٠..
صدرت جريدة «الأخبار» وهى تحمل المانشيت الرئيسى على الصفحة الأولى يقول: «مصرع السفاح». «المجرم رفض تسليم نفسه وأطلق الرصاص على الشرطة» «معركة فى حلوان ثم مات السفاح»! وإلى جوار صورة مثيرة لجثة محمود أمين سليمان على صدر الصفحة الأولي، قالت الأخبار إن السفاح لقى مصرعه برصاص الشرطة، بعد معركة فى مغارة بحلوان استمرت نصف ساعة وروت «الأخبار» تفاصيل نهاية السفاح فقالت: سكت مسدس السفاح بعد مطاردة استمرت ٢٩ ساعة! بدأت المطاردة فى الحادية عشرة من صباح أول أمس عند نقطة مرور البدرشين، وانتهت فى الرابعة من مساء أمس فى مغارة مظلمة شرقى حلوان!
لقد كتب السفاح نهايته فى نفس اللحظة التى قرر فيها تحدى الحصار المضروب عليه فى القاهرة، والفرار إلى الصعيد
وكان رجلا وسط ثلاثة ملايين نسمة، فأصبح هدفا وحيدا جائعا فى الصحراء!
ثم جاءت نهايته السريعة
لقد هرب السفاح من مستشفى قصر العيني، وهرب من كمين فى القاهرة، وأفلت من مطاردة أحد المخبرين له فى مصر القدمية، ولكنه مهما كان فإنه مثل أى مجرم مصيره إلى العدالة لتقتص منه
لقد بدأ السفاح قصة فراره الأخير فى البدرشين
كان يريد أن يصل إلى الصعيد، ولكن سائق السيارة اللورى نزل عند نقطة البدرشين وأبلغ عنه الشرطة!
وقد روى السائق إبراهيم طائل القصة فقال:
«ركبت السيارة اللورى من القاهرة فى العاشرة صباحا قاصدا مدينة الواسطي، وكان يجلس إلى جوارى التباع، وكان كل شيء يبدو هادئًا، بدأنا رحلتنا كما نبدؤها كل يوم
وقبل البدرشين بحوالى كيلو مترين وبالقرب من الحوامدية.. فوجئت بشاب على الطريق يشير بأصبعه ناحية السيارة.. نظرت إليه.. وتوقفت..
قال لي: رايح بنى سويف؟
قلت له: الواسطى فقط، قال بسرعة زى بعضه.. تسمح تاخدنى معاك عشان ورايا مشوار سريع؟
وعندما نظرت إليه ثانية.. نذكرت أننى أعرفه.. تذكرت أننى شاهدت صورته فى الجرائد كثيرا.. إنه السفاح!