الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

عيسى بن هشام بين الخطاب والمشروع «1»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ما زال معظم المثقفين يخلطون بين مصطلحى الخطاب والمشروع discourse & Project فى سياق حديثهم عن أعلام النهضة وقادة الفكر وزعماء الإصلاح. فى حين أن الواقع يشهد بذلك الفارق الواضح بين المصطلحين لا من حيث الاشتقاق واللغة، بل من ناحية التطبيق والممارسة، فأصحاب الخطابات من الكتاب هم أصحاب الدعوات الإصلاحية بمختلف درجاتها، بداية من النقد الساخر (كتاب النكتة، رسام الكاريكاتير، مؤلفى القصص الكوميدية، الشعراء، الزجالين)، ومروراً بأصحاب الرأى من الإعلاميين وأرباب المنابر الثقافية والصالونات الأدبية والأحزاب السياسية والمفكرين والفلاسفة. وجميعهم تنحصر مهمته فى نقد الواقع والكشف عن الخلل وفضح الفساد ولوج الأبواب المغلقة وتنبيه الرأى العام التابع ومعارضة القيادات القائمة بكل درجاتها والنصح لها. والذى يميز أحدهم عن الآخر هو العلم والدربة بالقضية المطروحة، والإخلاص فى الدعوة والإيمان بالرسالة، والنزاهة فى النقد والموضوعية فى الوصف، والصدق فى النقل، والمراجعة فى الحكم. أما أصحاب المشروعات هم الذين يجمعون بين النظر والعمل، الفلسفة وتطبيقها، التصور والتخطيط، التنفيذ والمتابعة، فكل صاحب مشروع بالضرورة يحوى خطابا فى دعوته والعكس غير صحيح.
أو إن شئت قل إن المعنيين برسم الخطط الاستراتيجية هم أرباب الخطابات، أما القائمين على توقيع الخطط التكتيكية هم بالضرورة منفذى المشاريع. وأفضل المشروعات هو القابل للتطبيق على أيدى المؤمنين بصدق الخطاب المحرض، وأعظم المدارس الفكرية هى التى يتعاقب المنتمون إليها بتحويل خطابتهم إلى مشروعات. 
وأحسب محمد المويلحى من الدرب الأول، أى من أصحاب الخطابات النقدية، فمعظم ما جاء (على لسان عيسى بن هشام وأحمد باشا) لا يعد سوى الكشف عن الأدواء دون تحديد الأدوية، ويرجع ذلك إلى اعتقاد محمد المويلحى أن تحديد المرض بعد وصف أعراضه يعد أولى الخطوات نحو العلاج والشفاء منه، وأن الوقوف على سبب العطب يمكن العاقل من اجتنابه أو محوه وإبراء المريض. فقد دفع محمد المويلحى بطلى روايته إلى مخالطة العديد من طوائف المجتمع المصرى والاحتكاك بأغلبية طبقاته لتحليل معتقداتهم وعوائدهم وتتبع سلوكهم ونقد تصرفاتهم، فها هو محمد المويلحى فى المقامة الأولى من حديث عيسى بن هشام يتحدث عن عدم تواصل الأجيال «فاللاحق يعيب على السابق والسلف يسخط على الخلف، ويبدو ذلك فى عدم رضا أحمد باشا عن الواقع الذى رآه بعد إفاقته من سباته وعودته من عالم الأموات وتعليقات عيسى بن هشام على مقالته وما فيها وما صار إليها».
ولعل أطرف ما فى المقامة هو تلك المشاهد الدرامية المتتابعة التى تسوق البطلين فى حوار دائم حول تقييم القضايا والأحداث فى مصر تبعا لمواقفهما ومقابلة الظاهرة بمثيلاتها بالماضى القريب أو الموروث الغابر أو الدخيل المستغرب أو التقليد الأعمى للأجانب المتمصرين المخالطين للجمهور، بداية من اليهود النفعيين إلى الأرمن المتبرجين. فقد سخر كلاهما من طنطنة العوام بلفظة الحرية إلى درجة جعلها مرادفًا للفوضوية، ولا سيما فى المدن حيث لا احترام للتقاليد ولا توقير لكبير ولا تعاطف مع الأغراب ولا تسامح فى النقاش، وغير ذلك من حدة وغلظة وندية، بالإضافة إلى الثورية والعنف فى النقاش وانزواء الحياء والتبجح فى ارتكاب الآثام والمعاصي، وذلك كله بحجة التطلع إلى الحرية والعدالة والمساواة ضد كل أصحاب النفوذ والجاه والمال والدين. الأمر الذى دفعهما (أى عيسى بن هشام، وأحمد باشا) إلى تفقد معظم شرائح المجتمع، للكشف عن موطن الداء وعلة العطب والفساد فى شخصية المصريين، فوقفا بالنقد والتهكم والسخرية والتحليل على: (أحوال رجالات الشرطة، أعضاء النيابة العامة، المشتغلين بالمحاماة، المحاكم الأهلية، التفتيش الإداري، المحاكم الشرعية، قضايا المرأة والأحوال الشخصية، الوقف والإرث، انحرافات الصوفية، شغف المثقفين بالسحر والشعوذة وكتب الجن والعفاريت، مجون شبيبة الأرستقراطيين وأبناء الباشوات، جنايات الطب والأطباء، العزلة والجمود فى العلم الأدب، الأزهر وشيوخه، أحوال الأعيان والتجار، أرباب الوظائف الحكومية والفساد الإداري، الأسرة العلوية، المعرفة النظرية والخبرة العملية، ولائم الأعراس، فن الموسيقى والغناء، العلوم العقلية والعلوم النقلية، الدين والعلم، الأنا والآخر، طبائع سكان الأرياف وأخبار العمد والأعيان وعوائد سكان المدن وتقليد الغربيين، السياحة الداخلية والتنزه، التأمل والنظر العقلين، مساوئ التغريب، حانات الخمر ونوادى القمار وبيوت الدعارة). 
والجدير بالإشارة، أن محمد المويلحى قد جعل البطلين يتصاولان ويتثاقفان تبعا للقضايا المطروحة والمشاكل المعروضة، وذلك فى حماية قوانين الحرية التى استناها واصطنع منها دستورا لحماية حرية البوح بينهما وحق الاختلاف والغيرية وتساجل العقلاء الذين لا يقنعون أو يسلم أحدهما لخصمه إلا بالحجة والبرهان، وها هو يصف أحد مواقفهما الخلافية ويقول على لسان عيسى بن هشام: «وما زال الباشا يجرى على هذا النمط فى الشرح والبيان، ويأخذنى بالبرهان فى أثر البرهان، حتى ملكنى بسلطان حجته، وأنزلنى على حكم رغبته».
وها هو أحمد باشا ثانية يمدح من يجمع فى حججه بين المنقول والمعقول وعلوم الأقدمين واكتشافات المحدثين وآراء الحكماء والفلاسفة من الشرق والغرب، وذلك بقوله: «ما هذا الذى أراه من بحر العلم المتدفق والفكر المتعمق؟ وما هذا الإبداع والتفنن فى أطراف المعقول والمنقول؟ وما هذا التضلع فى علوم الأولين والآخرين؟ وما عهدت قبل اليوم فى العلماء من اجتمع له مثل ما اجتمع للشيخ من دقة النظر، وصحة القياس، وسعة الاطلاع فى تواريخ الأمم على اختلاف ألسنتها وأجناسها، يتنقل فى تقرير البرهان وشواهد البيان تنقل النحل على جنى الأزهار، فيخرج بنا من التاريخ اليونانى إلى الرومانى إلى الأوروبى إلى الإسلامى فعجبا له! أعجمى وعربي؟ وشرقى وغربي؟».
ويعنى ذلك أن نهج البطلين فى الإصلاح هو الجمع بين الثقافتين العربية والغربية، لا تفضيل القديم على الجديد ولا الافتتان بالمستحدث على الثابت الأصيل، فطالما رفضا منطق المستغربين ودعوتهم أهل الريف إلى تبديل عوائدهم وجحد مشخصاتهم، وقد عابا على الشيخ الذى أقام فرح ابنته على المنحى الأوروبى، وأنكرا على أحد الشباب دعوته أهل قريته إلى هجر الأرض الزراعية والحياة القروية وسكنة المدن عوضًا عنها ومسايرة أهلها. 
وقد اصطلحا البطلان أيضا على منطق المكاشفة والمصارحة والإيمان بشعار لا حرج ولا خشية فى طلب الحقيقة والبحث عن الأصول، فالفضائل لا تعرف إلا بأضدادها والمفاسد لا يفضح أمرها إلا بمعرفة الصوالح، ويقول: «قد آتيتنى من الدروس الحكمة العالية، وضروب الفلسفة السامية، ما ازدرى معه عذل العاذلين، واحتقر به لوم الجاهلين، ولن يضير النفس الشريفة الطاهرة، أن تجاور النفس الخبيثة الفاجرة، وقل أن يعدى المريض الطبيب، وتذهب رائحة الدفر برائحة الطيب، والإمعان فى رؤية النقيصة والرذيلة، يزيد النفس الفاضلة تمسكا بالفضيلة، ولا يعرف قدر الرشد والهداية، إلا من نظر فى أعقاب الضلالة والغواية، وبالظلمة يعرف فضل الضياء، وبضدها تتبين الأشياء». 
وللحديث بقية