الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

فن المسافات

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تشترط العلاقات الاجتماعية مجموعة أُسس ومعايير لتنساب بسلاسة وتصل إلى شاطئ الأمان، من هنا وجد البعض ضرورة إدارتها بطريقة فنية، تضمن حُسن التعامل بين الأطراف وتنظّم علاقاتهم فيما بينهم، فلا تنكسر «جرّة» العلاقة بسبب تصرفات غير مدروسة، أو يتأثر الرابط الاجتماعى بتجاوزات من هنا أو هناك. 
وبحسب الدراساتِ والإحصاءات، فإن أكبر مُسبِب للحوادث المرورية بعد السرعة والغفلة هو عدم ترك مسافة كافية بيننا وبين من يسير أمامنا، فالاقترابُ الشديد يُفقِد السائق القدرة على السيطرة، ولا يُعطيه فرصة للتصرف فى المواقف الطارئة، وحتى فى الطبيعة من حولنا فإن الاقتراب الشديد يحول بيننا وبين تلمّس الجَمال! فرؤيتك للبحر عن بُعد أجمل بكثير من غوصِكَ فيه، ولو سافرتَ للقمر الذى تغنَّى به الشعراء وهام به الكُتاب فلن ترى إلَّا حجارةً بالية وأرضا خاوية.
وهناك حكمة شهيرة تقول: لا تقترب إلى حد إبصار العيوب ولا تبتعد إلى حد نسيان المحاسن، فالعلاقات الإنسانية بطبيعة الحال متغيرة ولا تثبت على حالة واحدة ومن هنا فهى تحتاج فى بعض الأوقات إلى البُعد قليلا لمراجعة الذات والتصرفات، وفى أحيان أخرى تحتاج إلى الاقتراب أكثر لتعميق العلاقات والتغلب على الجفاء الذى ولدته الحياة بسرعة إيقاعها، فنجاح العلاقة يكمن فى قدرة الفرد على استشعار أحوال المحيطين به ومحاولته التخفيف عنهم، سواء بالمشاركة الإيجابية أو الابتعاد من أجل إعطائهم فسحة من الوقت للتفكير بعمق وهدوء، وأذكى البشرِ هو مَن يُتقِن فنَّ إدارة المسافات يعرف مَتى يَقتربُ، ومتى يبتعدُ، وقد أكَّد هذا المفهومَ عالِم الاتصال الإنسانيِّ (إدوارد هول) بقوله: «إنَّ إدراك المسافة والمحافظة عليها مسألة مُهمة لإبقاء الودِّ والاحترام المتبادل فى العلاقاتِ ما بين الأشخاص. ونفقِد علاقتَنا بالآخرينَ عندما نخطئ فى احتساب تلك المسافة».
وفن المسافات من الآداب الإسلامية التى حث عليها الشرع الحنيف ويتجلى ذلك الأدب الإسلامى فى سورة النور والتى حوت قوانين اجتماعية ونظمًا تربوية تملأ حياة من التزم بها نورًا وسعادة فى مجتمع تصان فيه الحرمات، ولا تتبع فيه العورات، حيث قال المولى عز وجل: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ - فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ – (الآية 28،27) 
ويحدثنا صديق عن عمله فى إحدى المشروعات الكبرى مع أحد نواب الرئيس التنفيذى للمشروع ولاحظ الثقة الكبيرة التى يمنحها رئيس المشروع لمساعده، لكن ما أثار انتباهه هو المسافة الكبيرة بينهما، فالنائب يضع مسافة كبيرة بينه وبين الرئيس، لا يتبسط معه مطلقا. يحرص ألا يجلس بجواره إلا إذا طلب منه ذلك، لا يمكن أن يبدأ الحديث بل رئيسه هو من يبادر، يحرص على أن يظهر الفارق بينهما فى كل لقاء أو حوار أو اجتماع حتى لو لم تعرفهما وشاهدتهما معا لأول مرة فستكتشف من الرئيس ومن المرؤوس.
لقد أثار سلوك النائب فضول صديقنا فرغم قرب النائب من الرئيس إلا أنه يصر على وجود المسافة الكبيرة بينهما، وعندما سأله عن سر هذا السلوك أجابه بأنه أفضل سلوك يمكنك أن تستعمله مع رئيسك، يريحك ويريحه، وأن أسوأ قرار تتخذه أن تلغى الحدود والمسافات، فالحدود والمسافات ليست كما نتصور سيئة وتعيسة، وإنما أحيانا تكون قيمة ومفيدة. تفرض وتزيد الاحترام بين الطرفين وتمنع أى تجاوز قد يضر بالعلاقة على المدى الطويل 
ويضيف المرؤوس ناصحا، ضع ضوابط وبروتوكولات فى علاقتك مع الآخرين إذا أردت أن تصمد هذه العلاقة ولا تقتلعها رياح العاطفة، ومن أهم هذه الضوابط ألا تقترب أكثر من اللازم. حافظ على هذه المسافة، ارسم هذا الحاجز الوهمى فى رأسك واحرص على ألا تهدمه أو تخترقه. فمهما تواضع رئيسك اشعره دائما بأنه رئيسك. إذا لم يخدمك هذا السلوك فحتما لن يؤذيك، قد تتعدى المسافات لتقترب كثيرا لكنك لاحقا سوف تبتعد كثيرا. 
الرسالة الجميلة استدعت للذاكرة قصة رمزية ذكرها الفيلسوف الألمانى (شوبنهاور) تقول «إن مجموعة من القنافذ اقتربت من بعضها فى إحدى ليالى الشتاء القارسة طلبًا للدفء، وهربًا من الجو الجليدى شديد البرودة، لكنها لاحظت أنها كلما اقتربت من بعضها أكثر، شعرت بوخز الأشواك التى تحيط بأجسادها، مما يسبب لها المزيد من الألم.. وأنها كلما ابتعدت عن بعضها البعض شعرت بالبرودة تجمد أطرافها، وبحاجتها للدفء فى أحضان أصدقائها! بقوا على هذه الحال بين ألم الاقتراب، وهجير الانفصال؛ إلى أن توصلوا إلى المسافة المناسبة التى تقيهم من برودة الجو الجليدى وتضمن لهم أقل درجة من ألم وخز أشواك الأقارب.
وأخيرا لكى يبقى الجميل فى عينيك جميلًا، لا تقترب منه كثيرًا.. البعض أجمل من بعيد، فحافظ على المسافة بينك وبينهم، لقد علمتنا الكتابة أن نترك مسافة بين الكلمة والكلمة لكى يفهم الآخرون ما نكتب، وكذلك علمتنا حركة الحياة أن نترك مسافة بيننا وبين الآخرين؛ حتى لا نصطدم بهم، أو نتصادم معهم، فلكل منا عيوبه وأشواكه الخاصة التى قد لا تظهر لنا ولا نشعر بآلام وخزاتها إلا عندما نكون على مسافة غير مناسبة، ولندرك دوما أن ضبط المسافات من أكبر سنن هذا الكون ودلائل عظمة خالقه عز وجل، وأن سير الكواكب الدقيق مرتبط باحترام المسافات، فلو اقتربت الشمس منا قليلا لاحترقت الأرض، ولو بعُدت قليلا لتجمد كل ما حولنا.