الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

بطريرك بابل يدعو المسلمين والمسيحيين لصياغة "فقه مجتمعي"

بطريرك بابل للكلدان
بطريرك بابل للكلدان مار لويس روفائيل ساكو
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
دعا بطريرك بابل للكلدان مار لويس روفائيل ساكو "المرجعيّات الدّينيّة المسلمة والمسيحيّة إلى التّعاون معًا من أجل صياغة مشتركة "لفقه مجتمعيّ" أو ما نسمّيه مسيحيًّا بلاهوت المصالحة السّياسيّة والاجتماعيّة"
وكتب نقلًا عن موقع البطريركيّة الرّسميّ:
"إرهاصات خرجت بها، أمام شعوري مع سائر العراقيّين بأنّهم يعيشون منذ 15 سنة في مستنقع عميق وواسع، فالكلّ يبحث عن سرّ الحلقة المفقودة الّتي من جرّائها تسود العراق، بكافّة مكوّناته: حالة من الانقسام والتّخندق بسبب الطّائفيّة، التّبعيّات السّياسيّة، الميليشيات، تصفية الحسابات، الاغتيالات، تجارة المخدّرات، التّطرّف، الفساد، البطالة، أعداد النّازحين، الفقر، التّزوير، وصولًا إلى تزوير الشّهادات، ولا ننسى الثّمانية ملايين شخص الّذين عاشوا تحت احتلال داعش وفكره المتشدّد، وحالات الإحباط والقنوط، ممّا دفع بعض الشّباب إلى اليأس ومن ثمّ الانتحار، الكلّ يتحمّل مسؤوليّة "وجود هذا المستنقع" الّذي دمّر الإنسان العراقيّ ودمّر طبيعة البلد وأنهك ثرواته، لقد فقدنا الحاضر، وهل ننتظر أن نفقد المستقبل؟.
علينا أن نقرأ كلّ هذه الأحداث والحالات، من منظور إيمانيّ وأخلاقيّ ووطنيّ واجتماعيّ جدِّيّ، ونبحث عن معالجات سليمة وصحيحة للخروج من هذا السّجن الّذي اُريدَ له أن يكون مألوفًا لدينا، وتفادي تكرار ما حصل في الماضي، وبناء مستقبل أفضل، خصوصًا أنّ الرّبيع العربيّ لم يجلب الأفضل للبلدان العربيّة.
أمامنا مثال من أميركا اللّاتينيّة، إنّه لاهوت التّحرير في ستّينيّات القرن المنصرم. ولد هذا اللّاهوت من أجل توعية النّاس بكرامتهم أمام استلاب حرّيّتهم وسرقة ثرواتهم "النّفط والزّراعة" من قبل الدّول الكبرى، وتطوّرَ هذا اللّاهوت تدريجيًّا ونجحَ في إجراء إصلاحات عديدة وخصوصًا في تعزيز الكرامة الإنسانيّة وبناء مجتمع منسجم.

هذا اللّاهوت ينطلق من المبادئ الدّينيّة السّمحاء والمنفتحة ومن الأخوَّة الإنسانيّة والرّوابط الوطنيّة لبلورة روح جديدة تُحرِّك العمل السّياسيّ والمجتمعيّ، من خلال بناء دولة المواطنة والقانون والعدالة والمساواة. دولة تركّز على الصّالح العامّ، وعلى المواطن العراقي، وتنطلق من المصالحة.
المصالحة تعني أساسًا المغفرة، ونسيان الماضي، وفتح صفحة جديدة مع الخصم المزعوم، ولنا في هذا أنموذج معاصر: خبرة جنوب أفريقيا، خبرة نيلسن مانديلا، الّذي قال فور خروجه من السّجن "عندما خرجتُ من الباب نحو البوّابة، أيّ نحو حرّيّتي، تذكّرتُ أنّه عليّ أن أترك مرارتي وكراهيّتي وإلّا لبقيتُ في السّجن". ولمّا أصبح رئيسًا لدولة جنوب أفريقيا قال لحرّاسه أحد الأيّام، إنّي أشتهي أن أتناول العشاء في مطعم شعبيّ. فذهبوا إلى مطعم شعبيّ، وفيه لمح مانديلا في زاوية من المطعم شخصًا يأكل، فطلب من الحرّاس أن يدعوه ليأكل معهم. فدعوا الرّجل ليأتي فجاء وهو يرتجف. وبعد انتهاء العشاء سأله حرّاسه، ما قصّة هذا الرّجل ولماذا كان خائفًا يرتجف. أجاب: هذا الشّخص كان سجّاني، وكان يعذبني وكلّما طلبت منه ماء "يبوّل عليّ". واليوم علَّمته درسًا في الغفران. وبفضل المصالحة غدَتْ جنوب أفريقيا دولة متقدّمة تتمتّع بالسّلام والاستقرار؛ هكذا، المصالحة الوطنيّة أساسُ كلّ شيء، وشرطٌ جوهريٌّ لإنهاء الصّراعات، وإعادة اللُحمة إلى النّسيج الوطنيّ.
إنّها تستند إلى الأسس البنيويّة، إذ أنّ أيَّ مشروعٍ جدّيٍّ خصوصًا المشاريع المعنويّة مثل "المصالحة الوطنيّة" لا يَستقيم ألّا برؤيةٍ واضحةٍ للوطن، وأنموذجِ الدّولة المزمع بناؤه، مع إيجاد آليّة تنفيذ فاعلة.
المصالحة موقف إيمانيّ وأخلاقيّ ووطنيّ يتطّلب القدرة على المغفرة واعتبار الآخر أخًا وشريكًا وليس خصمًا، والسّعي لبناء علاقة حقيقيّة معه بتفهّمه، والاعتراف به، وقبوله من دون السّعي لامتلاكه أو إلغائه.
وهنا لا بدّ لنا أن نفّكر جدّيًّا كيف نفتحُ الطّرقَ المسدودة ونرفعُ الحواجز النّفسيّة، وننظر إلى بعضنا البعض كأشخاص أحرار ومسؤولين فنحترم التّنوّع والاختلافات في الرّأي وبذلك نغدو أقوى من الانقسام.
أمّا المعارضة فهي ظاهرة صحّيّة إن عرفنا أن نعتمدها بشكل حضاريّ يقوم على الحوار والتّفاوض وتغليب الخير العامّ، فتغدو ثقافةً وممارسةً خصبةً، ولقاءً مفرحًا، وحياةً متدفّقة.
وإذا كنّا كمرجعيّات دينيّة، فنحن رعاة للمصالحة الوطنيّة، وما طرحتُه هو مجرّد بعض أفكار بسيطة تنتظر بلورتها، خصوصًا من قِبَل المرجعيّات الإسلاميّة الرّشيدة، للإسهام في صياغة فقه للمصالحة السّياسيّة والمجتمعيّة في العراق، به نخرج من النّفق المظلم".