الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

فن الموسيقى عند شوبنهاور

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يمثل «شوبنهاور» علامة بارزة فى تاريخ الفلسفة الغربية، ذلك أنه أول فيلسوف غربى يركز على الإرادة لا على العقل، كما أنه أول من اتجه من الفلاسفة الغربيين إلى الشرق وبِخّاصة إلى الهند ومذهبها البوذي، والتى بدأت تُعرف فى أوروبا فى مستهل القرن التاسع عشر؛ وذلك لاستلهام فلسفته الميتافيزيقية والأخلاقية التى تكاد تكون قائمة أساسًا على فكرة «النرفانا» والتى تعنى «الفناء الصوفى». وتسعى فلسفة «شوبنهاور» إلى خلاص الإنسان وذلك بدرجتين: الخلاص بالفن أى تأمل الكون والحياة تأملًا نزيهًا خاليًا من الغرض أو شوائب الإرادة، ثم الخلاص بالزهد الذى يسحق الإرادة مصدر الشرور فى هذا العالم.
وقد أعطى «شوبنهاور» أهمية كبيرة للموسيقى التى تُعّدُ تعبيرًا موضوعيًا مباشرًا، وصورة للإرادة الكلية شأنها شأن العالم نفسه، بل كالمثل ذاتها التى تُكون مظاهرها المتعددة عالم الأشياء الفردية؛ أى أنها لغة كلية تعبر عن العواطف بكل ما تحمله الكلمة من معنى. الموسيقى عند «شوبنهاور» – كما بين د/ عبدالرحمن بدوى فى كتابه: شوبنهاور – فن مستقل بذاته عن بقية الفنون، لا نجد فيها تقليدًا ولا تكرارًا لأية صورة للكائنات الموجودة فى العالم، ولها من الجلال والروعة وقوة التأثير فى أعماق الإنسان، ما يجعلها تفوق فى وضوحها العالم المرئى الذى يعبر عن جوهر الوجود وحقيقة العالم.
وقد اتفق «شوبنهاور» مع «كانط» و«هيجل» على أن الموسيقى فن يعبر بطريقة غير محددة المعالم، فهو يقول: «إن الموسيقى لا تعبر عن هذا الفرح المعين أو ذاك أو هذا الحزن أو الألم أو الرعب أو السرور أو المرح أو الطمأنينة أو ذاك، وإنما هى تعبر عن الفرح والحزن والألم والرعب والسرور والفرح والطمأنينة فى ذاتها؛ أى بطريقة مجردة إلى حد ما. بمعنى أن الموسيقى تعبر عن الطبيعة الكامنة لهذه المشاعر دون إضافات من الخارج، وبالتالى دون دوافعها الظاهرية. ومع ذلك فنحن نفهمها – فى هذه الخلاصة المستمدة منها – على أكمل نحو ممكن».
تعبر الموسيقى عن كل أنواع الانفعالات دون تمييز وبشكل عميق فى الوقت نفسه، وسرعان ما تجعلنا الموسيقى ننفذ إلى الأعماق النهائية الخفية فى العاطفة المُعبر عنها بالألفاظ أو الفعل الممثل فى الأوبرا، وتزيل النقاب عن طبيعتها الحقيقية وجوهرها الصحيح. ولهذا فإن التعبير الموسيقى يبلغ أوجهه حينما يخلو من الألفاظ والمناظر والأفعال وهو ما يتحقق فى السيمفونيات على الوجه الأكمل. وسيمفونية «بيتهوفن» مثلًا نرى فيها خليطًا من الأصوات لكنه يقوم – مع ذلك – على أكمل نظام، إذ إننا نرى فيها نظامًا عنيفًا يتحول بعد ذلك إلى أجمل انسجام. والموسيقى – فى ضوء ذلك – أجمل وأدق تعبير عن طبيعة الحياة التى تدور فى خليط عجيب من الصور اللا نهائية، وتحتفظ بكيانها بواسطة فناء للصور مستمر، وفيها نسمع أصوات جميع العواطف والانفعالات التى يمكن أن تختلج فى النفس الإنسانية لكن بطريقة مجردة، وكأنها عالم من الأرواح الخالصة.
وتذوقنا للموسيقى – كما يرى «شوبنهاور» – يتم دائمًا فى الزمان وبواسطة الزمان، بغض النظر عن المكان والعلية، أى لا ندركها بالذهن لأن الأصوات تحدث أثرها الجمالى بتأثيرها الخالص دون أن نكون فى حاجة إلى الارتفاع إلى مصدرها وعلتها، ونحن نحس بتأثيرها ونشعر بما لهذا التأثير من متعة عظمى، ونجدها ترن فى أسماعنا وكأنها صدى الفردوس مألوف لدينا؛ ولكننا مع ذلك لا نستطيع أن نعللها ونفسرها، والسبب أنها تُصور لنا كل الحركات الخفية التى تهز كياننا دون ما يصاحبها فى الحياة الواقعية من آلام وعذاب، وإنما هى حركات خالصة من كل إرادة وإن كانت تعبيرًا عن كل الإرادة.