الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

السياسة والديوان في مقامة عبدالله فكري «2»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يروى مفكرنا أنه أراد التيقن من صدق حوار ذلك الدليل – الذى اصطحبه من بداية الرحلة - فسأله عن البرهان، فطلب منه أن يتبعه ليصلا معا إلى مقام السلطان، وفى الطريق وقف بطل الحكاية (أى عبدالله فكري) ليستمع إلى أحاديث العوام – إن شئت أو قل المغرضين من مزيفى الوعي- الذين أدركوا غربته وقلة خبرته بأمور السياسة، فأرادوا أن يضللوه وصرحوا له بأن كل ما سمعه من الدليل وهم وخيال، وراحوا يشككوه وبالبلاهة والسذاجة يتهموه، غير أنه لم يجنح عن سبيله وراح يتعقب الدليل، ويتبع خطاه ليظفر من الحق بالقليل، فقابلته جماعة أخرى من الظرفاء – تجار الكلمة - يلتف حولهم جمع كثير، فظنهم بطل حكايتنا أرباب الحكمة ورجالات التدبير، غير أن الدليل أشار إليه بأنهم أصحاب هرج ومرج، وأن فى الإصغاء لهم مضيعة للوقت وعطلة عن بلوغ الهدف، فتركهم بطلنا وانصرف إلى أن وصل مع الدليل إلى بهو شاغل بالأنوار والرايات ومزدحما بالجمهور من رجال ونساء وشيوخ وأولاد وأكابر ونبلاء وصعاليك وعباد، وحال الزحام بين عيون بطلنا ورؤية ذلك الحاكم الهمام، ويقول: «لم أميز شكل العقل الحاكم فى ذلك القطر بوجه اليقين وعلى صورة التعيين، لكن رأيت كثرة ماله من الأنوار فوق ما لغيره من الحصار، وما يعلوه من الهيبة والوقار، فأخذت بالظن والتخمين أنه العقل المشهور، وتأكيد ما فهمته من ذلك بأخبار دليلى المذكور، ثم نظرت إليه فرأيت عنده امرأتين ظريفتين عفيفتين قد زانهما الحسن والجمال وعلاهما الأدب والكمال (هما العدالة والفضيلة)». 
ويمضى مفكرنا فى وصف معية العقل أو إن شئت قل حاشية ذلك الملك، فوقع بصره على امرأة ذات دلال ظاهر تسحر العقول بألفاظها وعلى رأسها تاج من الورود وتنطق بلسان معسول لا يلاقى من سامعيه إلا الرضا والقبول، فمال بطلنا إليها، غير أن الدليل نزع الستائر المسدلة عليها، وأخبره أنه افتتن بنظراتها الحميمة وهى فى الحقيقة نموذج للشهوة الدميمة. ومن الذين رآهم حول العرش نماذج للغب (أى البعد والشقاق) والحسد وحب الجاه، وجميعهم يمثل معاول الهدم لأركان الملك لا يقل خطرهم وأذاهم عن السيف والرمح والجهل والفقر والشح، ولا خطرهم عن النسيان والهرم (أقصى الكبر والضعف) على الذاكرة وغيبة الدليل على النفوس الحائرة، وعلى مقربة من هؤلاء أبصر بطل الحكاية الكبر والدناءة وجها إلى وجه، أما العدل فوجده وسط الكرم والبراءة والشرف والنزاهة جالسين يتهامسون فى أناة ووقار بجوار الأمن يفصل بين الحضور ويكون للنظام حارسا، وعلى مقربة منه امرأة يحيطها الجمال والكمال والجلال، فتأكد له أنها البصيرة، وذلك لأن الملك يعتبرها منبع الحكمة ونعم المشيرة، ويقول على لسان الدليل: «سألت الدليل عن خبرها، فقال هى البصيرة المعروفة بحسن آرائها، وهى أعظم أمرائنا، وسلطاننا يوقرها ويخشاها ويحذرها، ويستنهض العامة والخاصة لموافقة آرائها، وقد يقع بينهما الشقاق وتنحل روابط الإتقان، فيظهر كل منهما لصاحبه الخصومة، فتختل عند ذلك أمور الحكومة، ويتغلب فى خلال ذلك الاختلال طائفتا الأغراض النفسية والخصال المحمودة». 
وأعتقد أن عبدالله فكرى قد استطاع إلى حد كبير التصريح بأمرين: أولهما: أن المجتمع المصرى المتطلع للحرية غير مستعد لتطبيق الديمقراطية فى ميدان السياسة، وأن ذلك لا يرجع لعجز فيه، بل يرجع إلى قلة وعيه وتسلط المغرضين على العقل الجمعى، وتعمدوا تجهيله وحرمانه من الأناة والتريث وآليات النقد الفاحصة للأمور قبل تقييمها وإنفاذها. بالإضافة إلى خلو معية الحاكم من المختلفين المتعاونين، أو إن شئت قل التضاد المثمر، وعليه فهو يفضل الحكم الأوتوقراطي المحاط بمعية أرستقراطية تجمع بين العلم والفضيلة والحسم والأناة والعدالة والرحمة وعين الواقع وآفاق الخيال. ولعله أراد بذلك التصور التأكيد على أن قيادة الصفوة المستنيرة العاقلة هى الأفضل لحكم البلاد فى متنفس يجمع بين الحرية الواعية والأخلاق العملية الناجعة. 
أما الأمر الثانى، فيتمثل فى حثه المفكرين على تعويد الحاكم على منطق الحوار الذى يحتكم إلى التجربة والبرهان فى الفصل بين الأمور المتشابكة والآراء المتعارضة والقضايا المطروحة، وتنبيهه فى الوقت نفسه على ضرورة غربلة معيته من الندماء والوزراء والمستشارين، فمحاربة الفساد يجب أن تبدأ من الرأس بنفس القوة التى تُقلم بها أظافر صغار العمال.
وعلى الرغم من دراية مفكرنا بأصول كتابة المقامات؛ فإنه قد أخفق فى حبك مقامته من الناحية الشكلية، فالبداية ضعيفة ومشوشة وملغزة والنهاية غير مباشرة، يعوزها الحسم والنتيجة المستخلصة من العظة المتضمنة فى المقامة. والأحداث غير مثيرة. والشخصيات محدودة الأدوار، بداية من شخصية البطل إلى الشخصيات الثانوية، ناهيك عن الدور المزدوج الذى قامت به الأنا الباطنية والراوى السائح فيها. كما أن العقدة الدرامية غير محكمة والحل غير واضح.
وعلى أية حال؛ فإن مقامة عبدالله فكرى قد حركت المياه الراكدة فى الثقافة السياسية المصرية آنذاك. 
والسؤال المطروح: هل فى مقدور مفكرينا قراءة الواقع السياسى المعيش بعين تجمع بين البصيرة العقلية والمسحة الأخلاقية العملية؟ وهل نحن مؤهلين لما نطلق عليه الديمقراطية فى مؤسستنا السياسية؟ وهل لدينا غربال نضعه فى يمين الحاكم لاختبار عماله؟ 
ولم يبق للحديث بقية..