الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

في اليوم العالمي للأب.. إلى أبي.. الرجل الاستثنائي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news


طالما تعجب من تصرفاتي التي لا تُناسب عمري أبدًا، فقد كان يجلس يراقبني وهو يقرأ جريدة الصباح وأنا لا أتعدى الخمس سنوات، أُدخل خصلات شعري في أعماق شريطة مربوطة على يدي؛ لأتمكن من ربطها في ثوانٍ معدودة، متعجبًا كيف لي أن أفعل ذلك في مثل عمري. 

 

كان أبي يرى داخلي منذ طفولتي تلك المشاكسة العنيدة التي تفوق تصرفاتها عمرها الحقيقي بأعوام.. في بداية سنوات دراستي تعرضت كثيرا لذلك السؤال المعتاد الذي يطرح على التلاميذ في المدارس: بابا بيشتغل إيه؟! وكانت إجابتي دائمًا سريعة خاطفة: "صحفي" بيكتب في الجورنان. لم أكن أعرف معلومات أكثر عنه، من قبيل ماذا يكتب وفي أي مجال أو في أي صحيفة.

 

وعندما مرت بي سنوات الدراسة، ووصلت إلى أواخر المرحلة الابتدائية كان أبي وقتها يسبح ضد التيار؛ إذ كان يكتب ضد خفافيش الظلام التي كانت تنتشر وقتها في أنحاء مصر المحروسة، وفي الأروقة السياسية في محاولة منها لفرض أفكارها على المجتمع المصري تارة أو اقتسام جزء من الكعكة مع السلطة الحاكمة آنذاك، تارة أخرى.

 

كان يظهر على أشهر القنوات العربية والبرامج التليفزيونية داخل وخارج مصر كباحث في الإسلام السياسي آنذاك، يُفنِّد ويشرح خطورة تلك الجماعات، يحكي تاريخها المراوغ، ويشرح طريقة عمل تنظيماتها العنقودية.

 

ولأن جزءا كبيرا من المجتمع وقتها كان مخدوعا بمعظم تلك الجماعات اعتقادًا منه بأنها تعمل باسم الدين، وأنها تسعى لمرضاة الله، فقد وصفوا كل من يعادونها أو ينتقدون أفكارها بمعاداة الدين.

 

لذلك كنت أواجه انتقادات لاذعة في تلك الفترة من معلمين لي بالمدرسة، حيث كانوا يأتون بي ليستجوبونني، لماذا قال والدك هذه المعلومة في تلك الحلقة؟ ولماذا يحارب الدين؟ لماذا يفعل كذا وكذا؟ وكنت أخرج كل مرة من هذه النقاشات يسكنني هاجس واحد، تأكد لي فيما بعد، أنني ولدت ابنة لرجل استثنائي، فكل الأطفال يلعبون في ملعب المدرسة إلا أنا، يصنع أبي ضجة فتُطرح عليَّ الأسئلة، وأعود إليه كل يوم محملة بتساؤلات حول معظمها.

 

نقل لي أبي تلك الصفات عن طريق جرعات صغيرة متتالية، ولكنها قوية التأثير، كنت أتجرعها من خلال موقف تلو الآخر، فأذكر ذات مرة أنني كنت أجلس في الصف الأول من حجرة الدراسة، ودخل علينا أستاذ العلوم ليسأل عن واجب الأمس، محذرًا أن من لم يقم به سيضربه عشر ضربات بعصا خشبية على ظهر يده. فما كان مني إلا أن انتضفت لأنقذ زملائي قائلة: يا أستاذ، الوزير منع الضرب في المدارس! وسرعان ما ارتسمت علامات الدهشة على وجه الأستاذ وانتابته حالة من الغضب الشديد أدت إلى طردي خارج الفصل.

 

فلم يكن أبي يردد على مسامعي الجملة المشهورة التي يلقيها الآباء على أبنائهم: "امشي جنب الحيط"، ولكنه كان وما زال يعلمني أن لا أترك حقي أبدًا.

 

وفي بداية دراستي لمجال الإعلام بالجامعة كنت أتدرب في صحيفة كبيرة وقتها وفي يوم من أيام 2012 ذهبت لأغطي ندوة لعدد من مرشحي الرئاسة، وحصلت وقتها على انفراد يفوق سني وخبرتي بالعمل الصحفي بكثير، وذهبت وكلي حماس وفرح إلى الجريدة وكتبته، وساعدني أبي في صياغة العنوان وقتها، ونشر بالفعل في أهم الأخبار، وعقب ساعات معدودة انقلبت الدنيا رأسًا على عقب، وتشاجر معي الزميل المكلف بتغطية المصدر صاحب الانفراد، خاصة وأن الانفراد مثل إدانة واضحة للمرشح، وصنع شرخًا في العلاقة بينه وبين الزميل الذي كان مكلفا بمتابعته.

 

ووصل الشجار إلى تهديد الزميل لي بصوت عالٍ بعدم الكتابة حول هذا المصدر مرة أخرى في الجريدة، وكان وقتها يكبرني سنا ومكانة داخل الصحيفة، وسرعان ما تحول يومي من فرح إلى كآبة وحزن وإحباط.

 

ذهبت إلى المنزل في المساء، وكان أبي كالعادة يقرأ صحف الصباح التي كان دائمًا يجلبها معه كل مساء، وحينما سألني عن يومي وماذا فعلت، بدأت سرد القصة، ولكن لسبب ما اختلط حديثي بالبكاء، فعمري وقتها لم يتعدَّ الثامنة عشر، وأعمل في مجال جديد ليس سهلا، فما كان منه إلا أنه غضب وارتفع صوته قائلا: بتبكي ليه؟! هتبكي ما تشتغليش، اللي يبكي يقعد في البيت، فما كان مني إلا أن صمت واستمعت له وهو يقول لي: في شغلتنا دي مينفعش نبكي، لازم تكوني قوية وتحاربي عشان توصلي، اللي يتحداكي اتحديه واللي مؤمنة بيه اعمليه واكتبيه طول ما أنتِ معاكي اللي يثبت شغلك، خليكي زي القطر، لا تقفي إلا في المحطات المسموح بها قانونا بالوقوف لكن لا يجبرك أحد، مهما كان، على الوقوف في المحطات الممنوع فيها الوقوف.

 

كانت كلمات أبي وقتها بمثابة الوقود الذي زود به محرك أحلامي وطاقاتي، وساعدتني في تكوين جزء كبير من شخصيتي، فبدلا من الإحباط والحزن الذي تملكني وقتها ذهبت إلى العمل في اليوم التالي أبحث عن شجار جديد وتحدٍّ آخر، ولكن من أجل المعلومة والخبر والمغامرة وكل جديد.

 

أبي الذي علمني القوة والمثابرة لم يعاملني بقسوة أبدًا، ولم يضعني في قالب الرجل حتى يحميني من نظرات المجتمع،  بل كان يمشي شوارع كاملة ليحصل لي على درجة أحمر الشفاه المطابقة للصورة التي أرسلتها له، وهو أبي الذي كان يقضي ليلة العيد يمسح شوارع وسط البلد شارعًا شارعًا ليحصل لي على فستان العيد الذي يُطابق أحلام طفلته الصغيرة، يفعل ذلك دون كلل أو ملل أو شكوى.

 

وهو أبي الذي اعتاد أن يُقبِّل يدي أمام الجميع وكأنني أميرة من أميرات العصور القديمة، فكانت هناك دائمًا عبارة ما تتردد على مسامعي في كل مراحل حياتي وهي أنني محظوظة بأبي، نعم أنا محظوظة لأنني ابنة لرجل استثنائي.