الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

جواري أوروبا والإنتلجنسيا المصرية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
انطفأت جذوة ثورة ١٩١٩، ولم ينعتق القلب المصرى من همومه؛ إذ قوبلت تضحيات الشعب العظيمة بأبخس الأثمان، تأرجح الوطن المأزوم على حافة اللايقين، قلقًا على مصيره المجهول: تصريح ٢٨ فبراير حبرٌ على ورق، دستور ١٩٢٣ يتآمر عليه القصر والإنجليز، وفوق ذلك كله طاقة الأمل تخبو من على وجه سعد باشا. المشهد يزدحم بتفاصيل قاتمة، لا تحرض على اليأس العام فحسب، بل تُنبئ بتحولات عنيفة ضربت الوجدان المصرى فى صميم قناعاته. فقد اندثرت الإنتلجنسيا intellgentsia (نخبة الطبقة الوسطى المثقفة)؛ وهم صنّاع الآمال الكبرى، بقايا جيل وفكر الثورة العرابية ومصطفى كامل، اضمحلت بفعل الإحباط السياسى والانهزام النفسى. وأكمل الإنجليز ردم قنوات التواصل بين النخبة المأزومة والجماهير التائهة؛ إمّا: بالنفى السياسى، والترهيب، أو شق الصف. 
بحلول عام ١٩٣٠ أُلغيّ دستور ١٩٢٣ مكسب الثورة الوحيد، واستبد إسماعيل صدقى (وهو من النخبة القديمة قبل الاستمالة) بالحياة السياسية. والأنكى أن قوة سلاح المستعمر لم تعد وحدها القوة الحاكمة، بل إن مفردات الحضارة الأوروبية، أعادت صياغة الحياة بأسرها. إزاء تلك الأوضاع السوداوية اكتمل انسحاب النخبة تمامًا، فتشوشت بوصلة الهوية المصرية، وبات كل شىء ممسوخ أعرج، يعبُد الطابع الأوروبى الملفق على المصريين. 
لما زادت أعداد الجاليات الأوروبية فى مصر بفضل الاحتلال الانجليزى، حدث التلاقى بين الرجل الشرقى التقليدى، والمرأة الأوروبية. أثمر التزاوج الحضارى عن مولود مشوَّه، صوّرهُ الكتّاب الأوروبيون ببالغ السخرية والإشفاق؛ الرجل الشرقى هو ذلك التنبل الأبله، المتيم بالمرأة الغربية بعشقً يسلبهُ الإرادة، استمدوا مادتهم الحكائية اللاذعة، من أفاعيل الطبقة الثرية وقتها: الشاب البرنس «على فهمي» يتزوج من فرنسية، سيئة السمعة، نبذته ثم قتلته، وكذلك الأمير «جلال الدين»، والنبيل «عباس حليم» اشتركا فى غرام ممثلة مسرح إنجليزية مغمورة، وتلاعبت بهما، فقد هان لديهما قدرهما السياسى والأسرى الرفيع، أمام الجسد المنحوت بالإزميل الأوروبى.. إلخ. 
الواقع أن الشقراوات حالهن مُهين، ويستوجب الرثاء الإنسانى أكثر من رجل العشرينات المأفون؛ فقد امتلأت المسارح وضجت الشوارع بحسناوات أوروبيات، تنحدر أصولهن الوضيعة من جاليات العبيد الأبيض، وأقنان القرون الوسطى - فى أحسن الأحوال، يَرفُلنَ فى هيئة نساء أوروبيات متحضرات، بدرجة جوارى جاهزات للبيع والشراء فى أسواق النخاسة العصرية. جميعهن مستقدمات من مجتمع الثورة الصناعية، بعدما هرسته النزعات المادية البحتة، مؤهلات لبيع صكوك أجسادهن لمن يدفع أكثر. والمعضلة أن: رجل العشرينات، يجدهن معروضات كسلعة مُعَدّة للاقتناء ومقوّمَة بالمال، وأحيانًا كثيرة رخيصة الثمن، وفى ذات الوقت على يقين بتفوقهن عليه، ورقى جنسهن عنه؛ كونهِ فاقد للقدوة الوطنية والحضارية، ومن ثم يعجز عن امتلاك جمالهنَ البَهى إلا بالمال وحده. 
لم تقنع المرأة المصرية بموقف المتفرج على رجالهن المندوهين، عزّ عليهن رؤيتهم يعشقوًا تلك الهياكل العظمية المكسوّة لحمًا ضئيلا. تشجعن وخرجن من البيوت، انطلقن بهيئتهن الجديدة: نحيلات، جميلات، أنصاف أوروبيات، غزون النوادى والسينمات، ينافسن الأوروبيات. ليلفظ هذا التضاد اللا منطقى مجتمعًا جديدًا تمامًا، انسلخ من آخر قديم عفا عليه الزمن، يُحاكى ظاهريًا المجتمع الأوروبى، بينما عمقه مبطنًا بالعفن الذهنى والتسوُّل الحضارى. وقد عبَّر عنه «كمال سليم» فى فيلم «العزيمة» المعروض عام ١٩٣٩م؛ ووصف المجتمع المتردى بمنتهى البراعة خلال التفاعل المبتذل بين: «أنور وجدي» الشاب المستهتر، الشرقى المتنكر فى الزى الأوروبى، و«فاطمة رشدي» الفتاة المتطلعة، تحسبها فى حوض سباحة نادى الجزيرة من خريجى السُوربون، وكأنها -وأسلافها- لم تشرب من القُلّة يومًا، أو تقرفص لتأكل على الطبلية. ويبقى «حسين صدقي»، رمزًا رومانيكيًا بائسًا للإنتلجنسيا المدحورة، إذ يقف مهزومًا معذبًا، يرتجى لحلمه إنصاف المال والسلطة، المُعَبّرعنهما ميلودراميًا بنهاية الفيلم فى صورة «عباس فارس»؛ الباشا والد أنور وجدي! 
فيما تلى الأربعينيات تحصن الجسد المصرى من فيروس جوارى أوروبا، صارت الإنتلجينسا أكثر حضورًا وتماسكًا، تصقل الهوية المصرية، ابهت وتلاشى نموذج البرنس الثرى المتبطل، بل وصار منبوذًا على المستوى الشعبى، لصالح مثال الشباب المثقف الوطنى. وهو ما تناوله يوسف إدريس فى رواية «البيضاء»، إذ صوّر الفتاة الأوروبية المغرمة بالشاب الوطنى المصرى فى الأربعينيات، وأما قصة الحب بين «يحي» و«سانتي»، رغم فشلها فإنها كانت تحمل فكرة التنافس الضدى، القائم على التكافؤ العاطفى والاختلاف المعرفى، لا الانبطاح الحضارى. فيما بين حقبتي: فيلم «العزيمة»، ورواية «البيضاء»، نرصد أثر تجربة النخبة المصرية المثقفة صعودًا وهبوطًا. الإنتلجنسيا بمثابة الجهاز المناعى للوطن، بدونه يصبح عرضة لشتى أنواع الأمراض الاجتماعية، بغيابها ينسحق المجتمع وبحضورها يزدهر ويتطور.
صرح كل من العفة والبصيرة والاستقامة والحياء والخيال بتأييدهم لرأى العدل وحذروا فى الوقت نفسه العقل من دهاء الشهوة والغفلة والمداهنة.
الواقع أن الشقراوات حالهن مُهين، ويستوجب الرثاء الإنسانى أكثر من رجل العشرينات المأفون؛ فقد امتلأت المسارح وضجت الشوارع بحسناوات أوروبيات، تنحدر أصولهن الوضيعة من جاليات العبيد الأبيض، وأقنان القرون الوسطى - فى أحسن الأحوال، يَرفُلنَ فى هيئة نساء أوروبيات متحضرات، بدرجة جوارى جاهزات للبيع والشراء فى أسواق النخاسة العصرية.