الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بوابة العرب

مئوية نهاية الحرب العالمية الأولى.. حرب ثالثة أم ولادة إنسان جديد؟

الحرب العالمية الأولى
الحرب العالمية الأولى
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
١٠٠ عام مرَّت على نهاية الحرب العالَميّة الأولى التى غيَّرت جذريًّا النّظام الدوليّ الذى كان سائدًا آنذاك، وحصدت ٢٠ مليون قتيل، ودمَّرت أربع إمبراطوريّات، الألمانيّة، والمجريّة، والروسيّة، والعثمانيّة.
قبل اندلاع الحرب العظمى، كان مركز توازن القوى العالَميّ فى أوروبا؛ وبعدها ظهرت الولايات المتّحدة واليابان كقوّتَين عظميَيْن، كما بشَّرت الحرب أيضًا بالثورة البلشفيّة عام ١٩١٧، ومهَّدت الطريق للفاشيّة، وأسَّست للحرب العالَميّة الثانية، وانعكست مصيريًّا على المَشرق العربيّ، فقسَّمته سياسيًّا ومجتمعيًّا بموجب اتفاقيّة سايكس- بيكو ووعد بلفور وأنظمة الاستبداد والتبعيّة.
وفى دراسة لمركز الفكر القومى أعدها الباحث اللبنانى سركيس أبوزيد، قال إن فلسطين هى أكبر ضحايا الحرب العالميّة الأولى، وهى الشاهد الحيّ والدليل على تآمر القوى الكبرى عليها، وكأنّ الحرب العالَميّة الأولى قامت لأجل احتلالها وتغيير مَعالمها وصهينتها وشطب هويّتها، وتبديل سكّانها. كانت الإمبراطوريات السابقة قويّة، بما يكفي، لتشمل مجموعات سكانيّة مختلفة، لكنّ الذين أعادوا تشكيل العالَم فى مؤتمر السلام كانوا ضعفاء ومُتصارعين، فاضطرّوا إلى إعطاء بعض الأُمم والجماعات الحقّ فى تقرير المصير. فظهر العديد من الحكومات من ضمن حدود جغرافيّة مُتداخِلة مُتنافِسة بين مُطالبات متناقضة أدّت إلى نشوء كيانات سياسيّة تعكس التجزئة والانقسام.
لماذا يحتفل القتلة بذكرى الحرب العالميّة الأولى، فيما نحن الضحايا الحقيقيّون لحروب أوروبا وأمريكا وجرائمهما؟
الضحايا يحرصون على إحياء ذكرى المذابح التى تعرّضوا لها، لحثّ شعوبهم على عدم النسيان، وتجنُّب المصير ذاته مرّة أخرى. أمّا المجرمون، فيحتفلون بذكرى نهاية المقتلة العالَميّة الأولى لتذكيرنا بجبروتهم على تكرار جرائم القتل بالجملة. إنّ الذين اجتمعوا فى باريس للاحتفال بالذكرى المئويّة لنهاية الحرب العالميّة الأولى هُم أحفاد القوى والقادة والحكّام والدول والإمبراطوريّات التى تسبَّبت فى مقتل ما يزيد على ٢٠ مليونٍ من البشر، إنّهم يحتفلون بنهاية الحرب التى لم تنتهِ آثارها المدمِّرة حتّى يومنا هذا، ففيها تمّ تقسيمنا بموجب اتّفاقيّات سايكس- بيكو، وتمّ توزيعنا كغنائم حرب على المُنتصرين من الأوروبيّين.، وفيها قام الأوروبيّون باحتلال القدس للمرّة الأولى، منذ أنّ حرَّرها صلاح الدّين عام ١١٨٧، ودخلها الجنرال الإنجليزى اللّنبى بجيوشه فى ٩/١٢/١٩١٧ وقال قولته الشهيرة: «اليوم انتهت الحروب الصليبيّة». وهو المعنى ذاته الذى كرَّره بعده الجنرال الفرنسى هنرى غورور حين احتلَّت قوّاته دمشق فى ٢٥ تمّوز (يوليو) ١٩٢٠، فذهب إلى قبر صلاح الدّين وقال بشماتة «ها قد عدنا يا صلاح الدّين».
بعد قرن من الهدنة التى أَنهت الحرب العالَميّة الأولى، ما زال تأثيرها مستمرًّا، والدول المتشكِّلة نتيجة للحرب من بولندا إلى سوريا، مرورًا بمعظم الدول التى ظهرت على أنقاض الإمبراطوريّات القديمة تُواجه تحدّيات للتوفيق بين الإيديولوجيّات الوطنيّة، ومبدأ حقّ تقرير المصير، وواقع التنوّع والتعدُّد. من جهة أخرى، لا تزال الدول التى ورثت الإمبراطوريّات القديمة مثل روسيا وتركيا تُصارع لاستعادة مكانتها السابقة ومساحات واسعة من الأراضى التى خسرتها، وتستلهم الماضى ودروسه سعيًا إلى إعادة تشكيل نظامٍ إقليمى يشبه النظام الإمبراطورى الذى ساد فى المنطقة التى كانت تحت سيطرتها سابقًا. وزير الخارجيّة البريطانى سير إدوارد جراي، توصَّل إلى اعتقاد مفاده أنّه لم يكُن بوسع أيّ إنسان أن يمنع اندلاع تلك الحرب. رأى ما زال مطروحًا الآن مع تزايد المَخاوف من تكرار الحرب الساخنة بعدما عرف العالَم حربًا باردة بين الولايات المتّحدة الأمريكيّة والاتّحاد السوفيتى تتجدَّد مَلامحها اليوم. 
وينقسم العالَم بين نظرة مُتشائمة تتوقَّع الحرب ونظرة مُتفائلة تبشِّر بعالَم أفضل أكثر أمانًا. هل نحن على أبواب حرب عالَميّة ثالثة؟ أهل التكفير يشنّون شكلًا من حرب إرهاب عالَميّة ضدّ كلّ مَن يُخالفهم الرأي. حركات المُقاوَمة تتحوّل إلى نَوع من الحرب العالَميّة ضدّ المَظالِم والاحتلالات، وحرب عالَميّة من نَوع آخر تندلع من أجل التكنولوجيا والبيئة والمَوارد الحياتيّة، لا سيّما المياه. 
حروب عالَميّة عِلميّة مدمِّرة تُهدِّد بنهاية البشريّة، وفضلًا عن عَولمة الإرهاب والمُقاومة، يرسم آخرون سيناريوهات حرب عالَميّة كلاسيكيّة متوقَّعة بين الولايات المتّحدة والصين وروسيا، ويتساءلون: هل يُمكن تفاديها؟
مارجريت ماكميلان، مؤلِّفة كِتاب «الحرب التى أنهت السلام» تُقارن العلاقات بين الصين والولايات المتّحدة اليوم بالعلاقات بين ألمانيا وبريطانيا قبل قرن من الزمان، مُقارَنة مُماثلة أجرتها مجلّة «الإيكونوميست»، أمّا جون ميرشايمر، وهو من عُلماء السياسة فى جامعة شيكاغو، فيتوقَّع أنّه من غير المُمكن للصين أن تصعد بشكلٍ سلميّ».
لكنّ الحرب مستبعَدة، لأنّ الفجوة الإجماليّة فى القوّة اليوم بين الولايات المتّحدة والصين أعظم من الفجوة التى كانت بين ألمانيا وبريطانيا فى العام ١٩١٤.
تعتمد الصين سياسة خارجيّة أكثر قوميّة، وخطّة داخليّة غير عاديّة أدّت إلى نموّ اقتصادى يتوسّع بقوّة، لمُواجهة هذه التحدّيات، يتخوّف المُتشائمون من أن تنزلق بكين إلى نزاع مع اليابان قد يتطوّر إلى حرب عالَميّة، فتضطرّ الولايات المتّحدة إلى دعم اليابان وإلحاق هزيمة عسكريّة مذلّة بالصين، بينما المتفائلون واثقون من أنّ المواجهات لن تنجرّ إلى مرحلة خوض مغامرة عسكريّة مأسويّة.
التشاؤم يتنازع جبهة الصين وأمريكا، ماذا عن جبهة روسيا وأمريكا؟
يتخوّف المتشائمون من أن يهدِّد قرار بوتين بالعودة إلى الصحوة الروسيّة، وإحياء إمبراطوريّة من جديد، بإشعال حرب عالَميّة، ويُذكر أنّه منذ قرن من الزمان كانت بداية حريق مدمّر فى أوروبا انطلاقًا من البلقان، فهل تتجدَّد الحرب العالَميّة الأولى انطلاقًا من روسيا بوتين؟
قال هنرى كيسنجر فى حوار أجرته معه جريدة «ديلى سكيب» الأمريكيّة، إنّ الحرب العالَميّة الثالثة باتت على الأبواب، وإيران ستكون هى ضربة البداية فى تلك الحرب، التى سيكون على إسرائيل خلالها أن تقتل أكبر عدد مُمكن من العرب وتحتلّ نصف الشرق الأوسط». 
ويردّ المتفائلون بأنّ عالَم اليوم يختلف عن العالَم كما كان فى العام ١٩١٤. إيديولوجيّة الحرب باتت أضعف فى الوقت الحاضر، ففى العام ١٩١٤، ساد تصوّر بأنّ الحرب حتميّة، وهى نظرة قَدَريّة عزَّزتها الحجّة الداروينيّة الاجتماعيّة بأنّ الحرب مرحَّب بها، لأنّها تعمل على «تنقية الأجواء»، مثل عاصفة الصيف، كما كَتب ونستون تشرشل فى كِتابه «أزمة العالَم»، لذلك اندفعت الأُمم بشراسة نحو النزاع والدمار، كأنّ العالَم كان راغبًا فى المأساة. لا شكّ فى أنّ القوميّة تنمو اليوم، خاصّة فى الصين وروسيا ودول أخرى، وأنّها قد تتواجه مع مصالِح قوميّات أخرى، تشنّ الولايات المتّحدة حربًا عالَميّة بالتقسيط، ولاسيّما بعد هجمات الحادى عشر من أيلول (سبتمبر) ٢٠٠١. لكنّ الدول الكبرى ليست مولعة بالقتال أو راضية عن الحروب المحدودة، لكنّ أيّ خطر مصيرى بالمُواجَهة يُمكن الحدّ منه باللّجوء إلى الخيارات السياسيّة السلميّة، وإمكانيّات التعاون ما زالت أقوى من احتمالات الحرب فيما يتعلّق بالعديد من القضايا، وانتهاج أيّ سياسة مُغامِرة من شأنه أن يعرِّض مَكاسب البلدان فى الداخل والخارج للخطر، لذلك لديهم الخيارات والوقت لإدارة العلاقات بينهم بنجاح.
من بين الدروس التى ينبغى لنا أن نتعلّمها أنّ الحرب لا تكون حتميّة أبدًا، ولو أنّ الاعتقاد بكونها حتميّة قد يصبح أحد أسبابها. ولكن هل أصبح العالَم مكانًا أكثر أمانًا بعد مرور مائة عام على الهدنة التى أوقفتها؟
بحثت أجيالٌ من المؤرّخين والخبراء وصنّاع السياسات بكلّ دقّة فى أصول الحربَين العالَميّتَين والتأمّل فى إيجاد صيغة بين القوّة والعدالة فى إدارة شؤون الحكم العالَمي.
كانت الجهود المُضنية التى بُذِلَت منذ نهاية الحرب العالَميّة الثانية لبناء مؤسّسات حُكم إقليميّة وعالَميّة فعّالة سببًا فى الحدّ، وبشكلٍ كبير، من خطر وقوع كوارث مثل الحروب العالَميّة. بعد عصبة الأُمم والأُمم المتّحدة، لا بدّ الآن من إصلاح المؤسّسات الأُمميّة وإيجاد صيغة أفضل لإدارة الأُمم تكون أكثر فاعليّة ومُشارَكة وتعاونًا من أجل حلّ النزاعات وإيجاد عالَم أكثر رفاهيّة. يؤكِّد المُتشائمون أنّ العالَم لا يزال زاخرًا بالمشكلات، كما تشير إلى ذلك وسائل الإعلام كلّ يوم. لكنّ المُتفائلين يركّزون على اجتثاث الفقر، والقضاء على الأميّة، وتعزيز السلام، ويذكرون أنّ العالَم أصبح فى المجمل مكانًا أفضل ممّا نتصوّر.
بعيدًا عن التشاؤم
بعيدًا عن التشاؤم، أصبح العالَم بحاجة إلى رؤية أكثر إنسانيّة وأخلاقيّة لبناء إنسان جديد يعترف بالآخر ويضحّى من أجل الغير ويهزم الأنانيّة ويكون قادرًا على إطلاق ثورة ثقافيّة لعالَمٍ جديد. هل نشهد موت الإنسان الفردانى الإلغائى للآخر العدوانى الذى يزرع الحروب والتدمير والخراب، كما بشَّرنا فرنسيس فوكوياما فى ما سمّاه «نهاية التاريخ»، أو أنّنا دخلنا مرحلة تاريخيّة لإنقاذ الحضارة والإنسانيّة بولادة إنسان جديد يعمل على إيجاد سُبل جديدة للتعاون؟ ولا بدّ أن يكون الأساس الذى يقوم عليه هذا التعاون هو إيثار الآخر وإنكار الذّات. ١٠٠ عام مرّت على نهاية الحرب العالَميّة الأولى، وما زال الإنسان يعيش صراعًا بين الحرب والأمان، وبين نزعته الداروينيّة العدوانيّة وتوقه إلى تجسيد الأخلاق والقيَم السامية فى عالَمٍ جديد.