الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

نحن نقص عليك| محمد.. يفقد محبيه ويتذوق مرارة اليُتم

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يزخر القرآن الكريم بالقصص التى لم تكن مجرد عرض للتسلية وإنما ليزداد المؤمن ثباتًا على الحق وإصرارًا على مواجهة الباطل، من خلال إطلاعه على مواقف الأنبياء والمرسلين وقصصهم. وكان القصص القرآنى له النصيب الأكبر من قبل علماء المسلمين والباحثين والمفكرين، وخلال شهر رمضان المبارك نستعرض سيرة الرسل والأنبياء حتى تكون عبرة ونهجًا وصراطًا مستقيمًا نسير عليه.
{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى* وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى* وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى* فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ* وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَر}
وبعد أن أقام محمد فى بنى سعد خمسة أعوام ينهل من جو الصحراء الطلق روح الحرية والاستقلال النفسي، ويتعلم من القبيلة لغة العرب، حيث تركت تلك السنوات الخمس فى نفسه أجمل الأثر وأبقاه، كما بقيت حليمة وبقى أهلها موضع محبته وإكرامه طوال حياته، وعاد إلى أمه، وفى طريق العودة ضل محمد من حليمة بأعلى مكة، فبعث جده عبدالمطلب من يبحث عنه، وكان ورقة بن نوفل، وكفل عبدالمطلب حفيده، وأغدق عليه، ورعاه وكان يجلسه على الفراش معه فى مجالس الكبار، إجلالًا لأبيه، حتى جاء أول مرة يشعر فيها سيدنا محمد باليتم، وحينما أخذته السيدة آمنة إلى المدينة لتعرفه على أخوال جده من بنى النجار، فلما كانوا بها أرت الغلام البيت الذى مات فيه أبوه والمكان الذى دفن به، ووقتها شعر محمد لأول مرة باليتم، خاصة عندما استمع لأحاديث أمه عن أبيه وكيف كان محبوبًا، على الرغم من أنها لم تقض معه إلا أياما قليلة، ومكث الطفل وأمه فى يثرب ما يقرب من الشهر، وفى طريق العودة مرضت آمنة وماتت ودفنت بها، وعادت أم أيمن «الجارية» بالطفل إلى مكة منتحبًا وحيدًا يشعر بيتم ضاعفه عليه القدر، فيزداد وحشة وألمًا، فلم تمضى سوى أيام قليلة على سماعه آنات أمه وهى تبكى أبيه، وها هو قد رأى بعينه أمه تذهب كما ذهب أبوه؛ ليحمل الصغير همَّ وألم اليتم كاملًا، فقد أباه دون أن يراه وقبل أن يصل إلى الدنيا، وها هو يفقد أمه التى لم يمكث معها سوى أيام قليلة، وهذا ما جعل جده عبد المطلب يزيد فى حنانه لمحمد، وحين وصل محمد لسن الثامنة من عمره، يجد نفسه يتيمًا للمرة الثالثة، فقد رحل جده عبد المطلب، وحزن محمد لموت جده حزنه لموت أمه، فقد كان شديد البكاء وهو يتبع نعشه إلى مقرة الأخير، حيث فقد كفيله وسنده فى الحياة، وأخذ كفالته عمه أبو طالب، والذى لم يكن أكبر إخوته سنًا، فقد كان الحارث هو أكبرهم، ولم يكن أكثرهم مالًا، بل كان أكرمهم وأنبلهم وأكثرهم احترامًا فى قريش رغم فقره، وقد أحب أبو طالب ابن أخيه حبًا جمًا مثل حب عبدالمطلب له، وكان يقدمه على أبنائه، وكان يجد فيه من النجابة والذكاء والبر وطيب النفس ما يزيده به تعلقًا، ولقد أراد أن يخرج يومًا فى تجارة إلى الشام حين كان محمد فى الثانية عشرة من عمره، ولم يفكر فى اصطحابه خوفًا عليه من عناء السفر واجتياز الصحراء، لكن محمد أبدى من صادق رغبته فى مصاحبة عمه، وبالفعل اصطحبه معه، وكانت هذه أولى رحلات النبى الكريم، والتى ذهب فيها إلى جنوب الشام، وكانت تلك الرحلة لها الأثر البالغ فى نفس محمد، ففيها عرف محمد أخبار الروم ونصرانيتهم، وسمع عن كتابهم وعن مناوأة الفرس وعباد النار، وبعدما عاد إلى مكة كان يخرج إلى الأسواق المجاورة ويسمع لإنشاد أصحاب المذهبات والمعلقات، ويستمع إلى الخطباء ومن بينهم اليهود والنصارى، الذين كانوا يتحدثون عن كتب عيسى وموسى، ويدعونهم إلى ما يعتقدونه الحق. 
وكان محمد شغوفًا أن يرى ويسمع وأن يتعرف على كل شيء فكان حرمانه من التعليم قد جعله أشد تشوقًا للمعرفة، والتعلق، فلم يكن يرغب فى اللهو كما هو الحال فى أهل مكة، لكن نفسه كانت فى شده إلى التعلق بنور الحياة، لذلك ظهر منذ الصبا الأول بمظهر الكمال والرجولة وأمانة النفس، وهو ما جعل أهل مكة يلقبونه بـ«الأمين»، ولعل انشغاله برعى الغنم هو ما جعله ينصرف إلى التفكير والتأمل، وكان يلتمس فى مظاهر الطبيعة تفسيرًا للكون وخلقه، وظل طوال حياته أشد الناس زهدًا فى المادة ورغبة عنها، فلم تعرف الشهوة طريقًا إلى قلبه.