الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

للنقد ضروب ومقاصد في مقامة عبدالله فكري «2»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لعل أول ما نطالعه من هذه الرسالة هو عتبتها أى عنوانها الذى يشير منذ البداية إلى مناحها الرمزى (المقامة الفكرية فى المملكة الباطنية) فالمقامة الفكرية تعنى نسبتها إلى عبدالله فكرى وذلك ما ينبأ عنه المعنى الظاهر، أما المعنى الخفى فيدل على رغبة المؤلف فى تنبيه القارئ إلى أن هذه المقامة تحتاج إلى تدبير وتفكير وتأمل، ويعبر الشطر الثانى من العنوان (فى المملكة الباطنية) عن عالم التصوف وما فيه من كشف وخيال وإلهام وغير ذلك من دلالات ومعانى تناقض مملكة الظاهر والمحسوس، أما الدلالة الخفية فتعبر عن رحلة فى جوهر الأنا الإنسانية، ذلك العالم المغلق الشاغل بالكهوف والأنفاق والأسرار والأحاديث التى لا يسمعها أو يفقه مغزاها إلا ذلك المتربع على عرش تسيسها، ألا وهو العقل - إن شئت - أو قل القلب أو الضمير. 
ولعله أراد بحث الأمور السياسية للدولة فهى بمثابة القلب والأحشاء ومكمن الأسرار والقوى الصانعة للقرار.
أما عن أبطال المقامة فيتمثلون فى القوى العلوية التى سمحت للمؤلف بالسياحة فى تلك المملكة، والمرشد الذى يصحبه وقد جعله فى علم (الخضر) ولى الله الذى ارتشف من بحر العرفان الحقائق اليقينية، وحكمة لقمان المستنبطة من الدربة والدراية والخبرة والتجريب، ذلك بالإضافة إلى عصبة من النسوة تمثل قيم الاستقامة، العفة، الجمال والفتنة، التى تلعب دور اللذات والشهوات المادية الحسية، بالإضافة إلى البصيرة والعدالة وقد جعلهما أعلى سلم القيم المؤثرة فى صنع القرار وتسيير أمور الدولة وفق المعمول به فى المدن الفاضلة، وهناك شخصيات ثانوية كثيرة تكشف عنها الأحداث، شأن (الحرص، الشجاعة، التردد، التهور) التى تجسدت فى صور بشرية تسوس الحكومة ويشاورها السلطان فى اتخاذ القرار. 
ويمكننا أن نلاحظ من التعريف بأبطال المقامة شجاعة مفكرنا وسعة أفقه ورؤيته التقدمية، ويبدو ذلك فى مشاركته النساء فى أمور الحكم، وجعله أعلى درجات الإلهام والعرفان والآراء الصائبة والأفكار النيرة على لسان (البصيرة) وهى بين القيم تشغل مقام الريادة، ومن الملك تجلس على كرسى الوزارة ورأس الاستشارة.
وأعتقد أن ما ذهب إليه عبدالله فكرى فى هذا السياق لا يتعارض مع أصول الموروث، ولاسيما ما كان عليه النبى وصحابته فى الثقافة الإسلامية، فكانت للمرأة مكانتها فى البيت وفى المسجد وفى دور العلم وأمور الحرب أيضًا، وذلك على النقيض مما نجده فى القصص الرمزى اليوناني، على وجه الخصوص والحكايات الغربية على وجه العموم، فعلى الرغم من رفع الأساطير الإغريقية من مكانة المرأة فى سلم الأرباب وجعلها ربة للحكمة، إلا أنهم فعلوا النقيض فى أقاصيصهم، وألقوا بالمرأة من فوق درك السفالة والخسة، وجعلوا أفروديت أساس كل شر. ولعل هذه المقابلة تؤكد أن عبدالله فكرى لم يكن مترجمًا فى صياغة أفكار مقامته، فلو كان كذلك ما حدثت هذه المفارقة فى توزيع أداور أو شخصيات حكايته. 
وأول ما يصادفنا من متن المقامة تلك الإشارات الرمزية التى يحيلنا المؤلف فيها إلى أن أفكاره وآراءه وتصوراته لم تخرج عن كونها بنات شرعية للذاكرة والخيال والعقل وحسن الأسلوب، وأن وجهته النقدية مقصدها هو الإصلاح وتسوية الأنفس وتقويمها من النواحى الذوقية والأخلاقية، وذلك بالتزام الوسطية الشرعية والموضوعية العقلية فى تقدير الأمور والفصل فى القضايا العملية والحياتية. 
ويستهل مفكرنا خطابه بمخاطبة الأنفس وإرشادها إلى ضرورة الاحتكام إلى العقل والانتصار لمحمود الأخلاق والابتعاد عن الهوى واللذات المذمومة والشهوات المحرمة وذلك بقوله «إن العقل فى المملكة الإنسانية كالملك الكبير والبصيرة له بمنزلة الوزير الناصح المشير، والهوى كالجليس الخائن والصاحب المداهن، فيستعين العقل برأى البصيرة فى الأمور، فترشده إلى الخيرات وترده عن الشرور، إلا إذا غلب الهوى على العقل باعه للشهوات والجهل، فإنه يحسن له القبائح ويدعوه إلى ارتكاب الفضائح وإهمال ما تبديه البصيرة من النصائح.. فمن غلبت بصيرته على هواه فاز بالمنى والسلامة، ومن غلب هواه على بصيرته وقع فى الغواية والندامة». 
ويناقش مفكرنا قضية التحسين والتقبيح وحرية الإرادة الإنسانية، نازعا مع الصوفية إلى أن العقل ليس فى مقدوره وحده عصمة النفس عن الهوى وحمايتها من الغواية والمطامع وزينة الشهوات، فما أكثر الوقوع فى المهالك من جراء التقديرات الخاطئة والخيارات الفاسدة، وينصح مفكرنا بالبحث عن الحل والخروج من دائرة التردد إلى تحكيم القلوب والاحتكام إلى العلوم الربانية والإلهامات الروحية، والقيام برحلة سياحية فى الممالك الباطنية.
وللحديث بقية