الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

المقامة الفكرية لعبدالله باشا فكري «2»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
راح مفكرنا (عبدالله باشا فكري) يجدد دعوة حسن العطار لإدراج العلوم الحديثة ضمن المناهج الأزهرية، ولا ريب فى أن جهود مفكرنا فى ميدان التربية والتعليم، بالإضافة إلى مقالاته الأدبية وقصائده الشعرية قد لفتت أنظار المثقفين إليه فدعاه جمال الدين الأفغانى إلى مجلسه، وتعرف هناك على عبدالله النديم وأديب إسحاق وأحمد عرابى ومحمود سامى البارودى، وتأثر بوجهتهم الثورية فى مكافحة الفساد والتدخل الأجنبى فى شئون مصر، غير أنه كان أميل للتنوير الهادئ والإصلاح عن طريق التوعية والتعليم شأن الأستاذ الإمام محمد عبده، ولكن ثورية الأفغانى وتلاميذه قد فرضت روحها على الأحداث.
وفى عام ١٨٨١، ضمه على مبارك إلى عضوية المجلس العالى للمعارف، وفى العام التالى اختير عبدالله فكرى ناظرًا للمعارف، ومنح لقب الباشوية، ثم جاء الاحتلال الإنجليزى واتُهم مفكرنا بمشاركته فى الثورة العرابية وسُجن بضعة أشهر، غير أن التحقيقات أثبتت براءته ذلك بالإضافة إلى شفاعة الخديو توفيق الذى تتلمذ على يديه. 
وفى عام ١٨٨٤م، سافر إلى مكة لأداء فريضة الحج، ومنها إلى فلسطين لزيارة القدس والخليل، ثم إلى لبنان، وهناك التقى محمد عبده - أثناء نفيه فى بيروت - وتوطدت العلاقة بينهما. ولا غرو فى أن هذه الواقعات السياسية قد جعلته ينصرف تمامًا عن مدرسة الأفغانى ونهجها الثورى ويمضى مع على مبارك ومحمد عبده فى خطتهما لتجديد الفكر الإسلامي، وقد انصبت معظم جهوده لإصلاح حال التعليم بداية من المنشآت التعليمية إلى المناهج والمواد الدراسية وتدريب المعلمين لرفع كفاءتهم. 
وفى عام ١٨٨٩م، قبيل وفاته اختير رئيسا للوفد العلمى فى مؤتمر استوكهولم، والتقى هناك بكوكبة من المستشرقين على رأسهم الروسى جوتولد، والألمانى فون كريمر، والهولندى دى خويه، وقد قدم فى هذا المؤتمر بحثين أولهما فى شرح القصيدة الهمزية لحسان بن ثابت، بيّن فيها العلاقة بين اللغة والأخلاق والتاريخ عند العرب، أما البحث الثانى فخصه بالحديث عن التعليم فى مصر والمدارس الأميرية وتطورها، وقد حرص أثناء إقامته فى السويد على القيام بزيارات قصيرة لمعظم عواصم الدول الأوروبية المجاورة. وقد دوّن مشاهداته فى كتاب من أروع كتب أدب الرحلات المبكرة فى العصر الحديث، وعنونه: (إرشاد الألبَّا إلى محاسن أوروبا)، وقد تولى نجله أمين فكرى نشره عام ١٨٩٢م.
أما عن برنامجه الإصلاحى فيمكن تلخيصه فى عدة نقاط:
الدعوة إلى تعميم التعليم الأولى فى شتى ربوع مصر، وقد وضع خطة لتطوير المكاتب الأهلية وتحديث مناهج الكتاتيب وحث الأعيان على بناء المدارس، وترغيب الجمهور فى إرسال أبنائهم لدور العلم.
تحديث أساليب الإنشاء سواء فى الصحف أو فى الدواوين الحكومية وتدريب المترجمين ومحررى الأخبار والقرارات على استخدام الأسلوب العلمى المتأدب فى الكتابة والابتعاد عن الركاكة اللغوية من جهة، والأساليب المقعرة المفعمة بالمحسنات البديعية والصنعة البلاغية من جهة أخرى.
الدعوة إلى إنشاء مجمع للغة العربية لضبط المصطلحات المعربة ووضع قواعد للاشتقاق لاستيعاب المعارف الثقافية الوافدة وتصنيف معاجم لغوية وفنية حديثة، وقد تأثر فى ذلك بدعوة أحمد فارس الشدياق. 
إخضاع مدارس الإرساليات الأجنبية التى يلتحق بها المصريون لرقابة الوزارة للإشراف على مناهجها وطرائق تدريسها للمعارف المختلفة، موافقا فى ذلك الإمام محمد عبده. 
نشر الثقافة العلمية بين شبيبة المثقفين ونقض الصراع المتوهم بين الدين والعلم والتراث التليد والفكر الوافد الجديد. وقد تجلى ذلك فى نقده الكتب المسيحية والخطب الأزهرية المعادية للروح العلمية الحديثة مسايرا يعقوب صروف. 
العزوف عن التعصب الملى والطائفى والدعوى للحوار بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة، وإزكاء روح المواطنة بين المصريين.
الدعوى لتأسيس لجنة من كبار العلماء والأدباء لمراجعة الكتب قبل نشرها، ولم يقصد من ذلك الحجر على الأقلام والحد من حرية المفكرين، بل ثقل الملكات الإبداعية ورفع مستوى الكتاب والناشئين وإنقاذ الرأى العام من ضلالات الجهلاء والحمقى والرجعيين. 
أما عن كتاباته الأدبية النثرية فكانت تجمع بين رصانة الصياغة وسلاسة الأسلوب وبساطة العبارات وعدم المبالغة فى البديع، أما من حيث المضمون فكانت أنموذجًا أصيلًا يجمع بين الهزل والجد والأخلاق والعلم والفلسفة فى سياق واحد، فقد كتب مفكرنا ثلاثة أعمال أقرب إلى القصص القصيرة منها إلى المقامات أو الروايات المطولة، وهي: (قصة حسن الوفاء)، والثانية (قصة العمّال والبطّال)، أما الثالثة فهى أقرب إلى المقامة فى ثوبها اللغوى، وهى (المقامة الفكرية فى المملكة الباطنية) التى سوف نقوم بتحليلها.
وللحديث بقية..