الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

العقل وأنظمته البيئية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يذهب رولان بارط إلى أن تقسيم الأجناس الأدبية الذى أشبعناه دراسة وتعليقا، وكذلك قضايا تفصيل الأشكال وتحديد القاموس الأدبي، وكل ما يتعلق بعملية الكتابة يبقى بلا معنى إذا ما طرح خارج إطار مجتمع معطى، تظهر تواتراته على خارطته الكتابية. إنه يقول عن قوانين الكتابة فى المرحلة الكلاسيكية مثلا إنهـا «كتابة طبقة اجتماعية ولما كانت قد ولدت فى القرن السابع عشر وسط فئة متمركزة مباشرة حول السلطة، وتكونت بقرارات دوغماتية، وطهرت سريعا من جميع الطرائق النحوية التى أنشأتها الذاتية التلقائية للإنسان الشعبى وروضت، بعكس ذلك، علـى وضع التحديدات، فـإن الكتابـة البورجوازيـة قد قدمت أول الأمر بالاستخفاف المعهود عند الانتصارات السياسية الأولى على أنها لغة طبقة أقلية محظوظة». (الدرجة الصفر للكتابة).
إن تأمل رولان بارط فى الثنائية الخطيرة لغة /أسلوب عيش وما ينتج من تأمل فى نشأة كل حساسية جديدة وكل ميل أدبى (كتابي) جديد يجعل حلبة الصراع وبوتقة النشأة والتحول ورحم الخلق الأدبي، كل ذلك يدور فى أعطاف المجتمع، الصراع بين الطبقات صراع بين أجناس والتجديد السياسى أو الثورة الصناعية هـى تجديد للقوالب، والتحول من جيل إلى جيل هو الانتصار لمذهب إزاء مذهب أو لقلم على حساب قلم.
الأسلوب بهذا الشكل موقف، واللغة المتبناة استراتيجية ميل اجتماعي، والتحولات الاجتماعية لها مؤشر هو المعجم وهو الأسلوب وهو الظواهر الأدبية الأكثر تناهيا فى الصغر.
تنويعات
رولان بارط واحد من أبناء ثورة ٦٨ الفرنسية الشهيرة. وإذا عاينا هذه الثورة لقياس ثوراتنا العربية الأخيرة (والحراك الجزائرى تحديدا بسبب النتائج الغريبة فى إبهارها التى حققها هذا الحراك العجيب) فإننا سوف نجد كثيرا من النتائج التى تفرزها العين الفلسفية على العالم.
لقد أدرك العديد من الفلاسفة التأثير الحاسم لثورة مايو ٦٨ على تطور تفكيرهم. لقد صرح فيلسوفنا الأثير جيل دولوز، فى محادثاته: «لقد حدث لى نوع من الانتقال إلى السياسة، بقوة ومباشرة، وقد فعلت ذلك بنفسى فى مايو ٦٨».
من جهته يعترف ميشال فوكو، فى مقابلة أُعيد إصدارها فى كتاب ضخم جامع لمتفرقاته بعد وفاته «Dits et écrits»، ويقول إنه - على الرغم من أنه كان فى تونس فى ذلك الوقت- يعترف بدينه للحدث: «كان مايو ١٩٦٨ مهمًا، بلا شك، كان استثنائيًا. ولولا (مايو ٦٨) لما كنت سأفعل ما فعلته، بشأن السجن أو الانحراف أو النشاط الجنسي».
أحد أهم الفلاسفة المهتمين بتشريح هذا الحراك الفرنسى هو «جاك رانسيير» وهو يقول، وفى نفس الاتجاه: «فجأة، ولأول وهلة ظننت أنه أمر غير مقبول، لقد تأخرت على الحدث بعدة خطى، ولكني، الآن، وكلما مر الزمن، وكلما فكرت فى مايو ٦٨. [...] رأيت تمامًا ما شاركت فيه حتى ذلك الحين، وكيف تشكلت داخليا من خلال ذلك السياق التاريخى الثوري».
وأعلن آلان باديو فى كتابه «الفرضية الشيوعية»: «لا مهرب لنا، سوف أن نبقى معاصرين لمايو ٦٨ مهما تقدم بنا الزمن ومهما ابتعدنا عنه».
هل تصنع الثورة طريقة مجددة فى التفكير؟ هل هى أسلوب فى الكتابة؟ هل هى قالب لغوى واختيارات موضوعاتية وأسلوبية كما يوحى بذلك فلاسفتنا؟
هل أننا سنكون فى مصر وتونس والعراق وسوريا والجزائر والسودان – وإلى آخر الزمان- أبناء حراك مطالع القرن ٢١؟
رغم أننى عموما ممن يتشككون كثيرا فى الحتميات التاريخية، إلا أننى أشعر بأن هنالك بقعة تاريخية على ألبسة عقولنا لن تنزع مهما غسلنا أدمعتنا...
يبدو من خلال إدلاءات نجوم الفلسفة الفرنسيين السابقين معنا بأن ثورة مايو ٦٨ كان لها تأثير عميق وحاسم على تفكيرهم وأسلوبهم. يبقى أن نفهم ما يمكن أن يكون صدمة فكرية لهذا الحدث. بدلًا من التركيز على هذا المؤلف أو ذاك، نقترح تحديد نقلة نوعية عامة تركز على مجال الفلسفة السياسية. والغالب لدى مؤرخى الثورة هو أنها حراك يمينى جاء ضد بعض المقولات الأساسية للنظرية الماركسية. ففى بعض الخلاصات المدرسية حول ما حرك الطلبة وأدى إلى سقوط جمهورية ديغول الجليلة كما يسقط قصر الورق، يمكننا أن نرصد النقاط المفصلية الثورية التالية:
مقولة مهمة حول الطبقات المختلفة وجدت نفسها مهتزة فالثورة المذكورة فجرها الطلاب لكى يلتحق بهم العمال والنخب الفكرية (وتبقى صور جان بول سارتر وهو يخطب فوق الدبابة، وصور جماعته راسخة فى ذهن القرن العشرين)، كما شارك فى الثورة اصحاب المهن الحرة والفنانون ومختلف الجماهير الذائب بعضها فى بعض... وهى الصور نفسها التى رأيناها فى الحراكات العربية، وقد عمل كل ذلك على بث روح جديدة فى مقولة «الشعب» الذى تتعدد تسمياته التاريخية ولكنه يظل الموضوع الرئيسى للتاريخ الحديث.
لقد بدأت هذه الثورة بدحض السلطة الرسمية، وانتهت بتجديدها، فى إطار من الابستيمات الجديدة التى تحدد كثيرا من الإواليات، فى كثير من الأرضيات، بدءا من ضرورة المشاورة فى علاقات يصفها ميشال مافيصولى بالعلاقات التشاركية كبديل عن تصور الدولة الكلاسيكى الهرمى الذى هو استعادة لصلات الأبوة والرعاية الأبوية. والحصيلة السريعة هى تهشيم كل أشكال النماذج المجتمعية والحياتية وحتى النظرية الفلسفية من أجل تجديدها بواسطة استراتيجيات الحوار. وكل ذلك كان عليه أن يمس بمختلف جوانب الحياة اليومية ومختلف مؤسسات المجتمع على كثرتها وتعقيداتها.
خلاصة القول
رغم المسافة بينهما فإننا سنجد فى مقولة ويليام بليك: «الكتابة إملاء من الأرواح المعذبة» صوتا جيدا تكون مقولة رولان بارط أعلاه صدى فصيحا لها.
كثيرا ما كانت المسافة بين الفعل والتأمل مسافة قلقة من باب كون فعل التأمل متملصا بالضرورة من صخب الفعل وذلك لضمان سلامة أدائه، فى أن الفعل يحدث فى تناس كبير لماضيه التأملى الذى يكون قد مهد له «فلسفيا»، وهى مسافة قديمة قل من بت فيها، وإن كانت مرحلة سارتر والثمانية وستينيون – كما يسمون- قد أظهروا تسامحا جديرا بالاحترام بين الاثنين.
وربما يكون حال التفلسف بعد الحراك (أم أنها الثورات العربية؟) مختلفا من الآن فصاعدا؛ إذ ستكون لدينا خلفية ضرورية علينا أخذها بعين الاعتبار كلما عن لنا أن نتأمل فى أى شيء كان. تماما مثلنا كان مع فلسفات جيل ديلوز وفيليكس غواطارى وميشال فوكو وجاك رانسيير وألان باديو وجان فرانسوا ليوتارد وغيرهم كثْرُ، فنحن نرى أن فكرهم السياسى بعد مايو ٦٨، على اختلافاتهم وتبايناتهم، قد شهد تحولات عميقة.
لن يكون هناك فى فعل التفلسف ما تعودنا عليه من بواعث الفلسفة: الرغبة فى معرفة («معاينة ما أعرفه» لدى كانط)، ولا الولع بفهم ما من أجل تحقيق الذات للوجود عينه («الأنا» التى تقول الكوجيتو والتى هى مادة تفكر «ديكارت» )... وربما سنكتفى من الدروس الكلاسيكية باستبقاء مقولة سبينوزا حول «لذة الحقيقة»، فهى تبدو فكرة قد قاومت جيدا على مر الزمن، وقد رأينا معاينة جديدة لها من خلال شعارات الحراك الجزائرى مؤخرا «اديتو البلاد يا الكذابين» وهو شعار يطرح مسألة إيطيقية عميقة تعودنا عليها مطروحة فى الفلسفة أو الدين لا فى النضال والثورات الشعبية.