الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

موسيقى عصر الباروك

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
درست الفلسفة دراسة طويلة، ما يسمى عادة باسم المشاعر والأحاسيس والأحوال المزاجية، والانفعالات، هى تنتمى إلى صميم تكوين الإنسان من الداخل إلى حد لا يمكن معه التغاضى عنها فى أى محاولة لتفسير الإنسان. ولقد حاول الفلاسفة من «سقراط» و«أفلاطون» حتى العصور الحديثة تحليل الحياة الانفعالية للإنسان وربطها من حيث هو موجود أخلاقى عاقل. وكان «أرسطو» فى كتابه «السياسة»، وكذلك «نيكولا دى كوزا»، قد كتبا عن مذهب المشاعر فى صلته بالموسيقى، فاستخدم موسيقيو عصر النهضة هذا المذهب بحذر. أما موسيقيو عصر الباروك فقد ذهبوا إلى حد التطرف فى الطريقة التى عبروا بها عن المجموعة الكاملة للمشاعر تطبيقًا لهذا المذهب، كما أكدوا أيضًا الكلمات المهمة فى النص عن طريق التنافر النغمي؛ كما أدت البراعة المتزايدة فى العزف وتطور الآلات الموسيقية، إلى إتاحة وسائل أفضل يستطيع بها الموسيقى – فى هذا العصر – أن يؤكد معنى الكلمة المكتوبة عن طريق زيادة المشاعر حدة.
وأحيا «كلاوديو مونتيفردي» – الموسيقى الإيطالى الشهير وملحن الأوبرا – روح التراجيديا القديمة وخلق دراما موسيقية فى الحضارة الغربية، إذ كان يصور – فى موسيقاه – آلام البشر، وعجز الإنسان عن السيطرة على انفعالاته؛ وكانت مؤلفاته الموسيقية تنصب على عواطف الإنسان ومشاعره وآلامه. ولكى يحقق هذا الغرض، استخدم من الإيقاعات والتوافقات ما أثار غضب أنصار القديم، وبخاصَّة استخدامه للتنافر الهارموني. لقد انصب النقد على موسيقى «مونتيفردي» لأنها بقدر ما أدخلت قواعد ومقامات وصياغات جديدة للعبارات الموسيقية، كانت خشنة لا تُطرب الأذن.
وقد وجد «مونتيفردي» فى كتابات «أفلاطون» تبريرًا فلسفيًا لأفكاره الجمالية الجديدة فقال: «لقد وجدت – بعد إمعان الفكر – أن الانفعالات الرئيسة التى تنتاب نفوسنا ثلاثة: الغضب والاعتدال والتواضع، وهذا ما أعلنه أفضل الفلاسفة، وما تثبته طبيعة صوتنا ذاته بما فيه من طبقة مرتفعة وطبقة خفيضة وطبقة وسطى؛ كما يدل فن الموسيقى على ذلك بوضوح فى استخدامه للألفاظ بقلق وبعذوبة وباعتدال. والحق أننى وجدت فى أعمال الموسيقيين السابقين أمثلة للعذب والمعتدل، لكنى لم أجد أبدًا أمثلة للقلق، مع أن أفلاطون وصفه فى الكتاب الثالث فى الخطابة بقوله: «لنأخذ ذلك الانسجام الذى يصلح لمحاكاة أقوال رجل شجاع مشتبك فى حرب». ولما كنت أدرك أن الأضداد هى أقدر الأشياء على تحريك نفوسنا، وأن هذا هو الهدف الذى ينبغى أن تتجه إليه كل موسيقى جديدة، فقد أخذت على عاتقى – بجهد وعناء – أن أكشف هذا النوع من جديد».
وتوسع «مونتيفردي» فى استخدام التوافقات الهارمونية فى التعبير عن النصوص الشعرية، وكان يعتقد أن على الهارمونيا أن تحاكى مفهوم النص، لاسيما حين يكون الأمر متعلقًا بانفعالات بشرية؛ واستخدامه لهذه التوافقات الهارمونية كان بغرض تحقيق علاقة تعبيرية بين النغم والكلام. ولا شك أن استخدامه للموسيقى، أساسه إظهار المعنى الكامن فى النص على نحو أكمل، لأنه اعتقد أن الموسيقى ينبغى أن تتشكل وفقًا لمعنى الألفاظ. وكانت طريقته فى فهم وظيفة النص متوافقة مع آراء جميع موسيقى عصر الباروك، إذ إنه وضع مجموعة من التعبيرات الموسيقية لتصوير أفعال بشرية محددة وانفعالاتها.
وقد أوضح «جوليوس يورتنوى» أن «مذهب المشاعر» أصبح أظهر فى الأبحاث الخاصة بالفلسفة الجمالية الموسيقية فى الفترة المتأخرة من عصر الباروك. وعلى حين اهتم الفلاسفة والباحثون بوجه عام بالطبيعة العملية والوظيفة الأخلاقية للموسيقى، فإن الموسيقيين أكدوا أن العنصر المهم إنما هو صوت الموسيقى وطريقة استجابة السامع لها. من هذا المنطلق استخدمت موسيقى عصر الباروك «مذهب المشاعر» فى البداية لتأكيد دلالات النص الكلامى وزيادة فعالية اللحن الموضوع. لكن «مذهب المشاعر» هذا ازداد بمضى الوقت ثباتًا، حتى أصبح الموسيقيون يستخدمون تعبيرات موسيقية موحدة لإثارة انفعالات معينة وبعث صور متوهمة فى النفوس. وأدت هذه الطريقة العقلية فى خلق فئة من المؤثرات الموسيقية لوصف الحب والشفقة والكراهية، أو بعث حالة نفسية تتلاءم والأفعال المطلوب تصويرها، أدت إلى تشويه التوازن الذى وضعه اليونانيون بين النص واللحن.