الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الحراك الشعبي.. محطة فلسفية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فذلكة
كيف يعيش الفيلسوف حراكا شعبيا كالذى كان فى عديد البلدان العربية (وحتى الأجنبية؛ كحال أوكرانيا وجورجيا)؟ هل سنكتفى بما ركز عليه ذات يوم ريمون أرون وجان بول سارتر من ضرورة وجود مسافة من الحكمة المحافظة عليها بين الحراك والتأمل (أو بين التفكير والتدبير؟ أو بين التصرف والتفلسف؟) حسب القاعدة الفلسفية الفرنسية التى تتلاعب بالجناس الصوتى بين الكلمتين، والقائلة إن التأمل reflexion يبدأ حينما تتوقف الحركة action...؟
يجد الفيلسوف نفسه قبالة عالم الحركة فيحاول أن يردم الهوة بضخ شيء من التامل أو من ذاكرة التأملات فى الهيجان الكبير المحيط به. ماذا تستطيع النتيجة يا ترى أن تكون؟
تنويعات
الحراك الشعبى الجزائرى صار يشغل الساحة الإعلامية والفكرية أيضا فى المنطقة وعلى دوائر عالمية أيضا من منطلق أنه منذ أسبوعين أو ثلاثة تكاد لا تخلو أية تغطية إعلامية لأنباء العالم من تغطية الحراك الشعبى الكبير فى الجزائر.
وعلى هامش هذا الحراك لاحظت هذا الأسبوع أن أصدقائى المشتغلين فى الحقل الفلسفى قد حاولوا إعطاء بعدا فلسفيا معينا للحراك؛ أو حاولوا إلقاء نظرة فلسفية على ظاهرة اجتماعية ذات أبعاد كثيرة أحدها هو البعد الفلسفي.
مما جاء فى تعاليق الصديق البشير ربوح فى التليفزيون مقارنة الحراك بالحركات الثورة العالمية التى نالت حظها من التعليق والتنظير كالحركة المضادة للأبارتيد أو الثورة الفرنسية والثورة الكوبية بشكل عابر... وهنا نجد التوازى المنطقى بين التحركات الشعبية الغاضبة (ولو أنها فى الجزائر كانت حركة على درجة محيرة من السلم والهدوء والتصرف النموذجى بالنسبة لحراك يفترض أن ما يحركه هو الغضب)...
فى مقال له عنونه بالعنوان ما بعد الحداثى المقصود «نحوُ الحراك pour une grammaire du mouvement»...أهم ما فيه تأمل العلاقة بين التفكير والحركة (الحراك) والشغف أو المشاعر القوية passion مع الاستئناس بمقولة شهيرة لهيغل من كتابه حول فلسفة التاريخ مفادها أنه لا شيء ذا أهمية فى التاريخ حدث خارج دائرة الانفعال القوى أو دائرة الشغف.
فى نص قصير له وصف أيضا الصديق جمال بلقاسم الثورة ببعض التعابير الفلسفية قائلا: «السؤال يصير فضاءً...أخرج إلى الفضاء أيها الطفل: الخروج باستمرار يكون من مكان محجوب، مستور، إلى آخر مكشوف. سحب الحاضر إلى الخارج هو نوع من إسقاط النور عليه. يعلق الحراك على هذا الإسقاط، أو جعل الأشياء ذات طبيعة نتوئية - بارزة داخل العالم كالآتي: «أن تسقط النور على شيء ما هو أن ترمى رمية يقوم من خلالها الكشف بتسريب نفسه والتخلص من عتمته. هذا الإعلان المتضمن لتسليط الضوء يتخلى على الفور عن كل بلبلة قاتمة، ليسهّل للحجب سحب نفسه». الحاضر حدث أو مجيء، شيء يرتفع إلى أعلى باستمرار، نتوء، ذو خاصية إبرازية. والحراك أصبح طاقة لا تغير الحياة وحسب، وإنما تزيد إلى ذلك، نموها وغناها ودفعها إلى الأمام وإلى فوق والملاحظ رغم جمال النص إلا أنه عموما لا يقدم مادة للتفكير خارج الدائرة البلاغية التى تلصق بفعل معروف بألفاظ معهودة تعابير من المعجم الفلسفى المعاصر.
قد يثيرنا التساول حول صعوبة المقاربة الفلسفية للحراك، والراجح عندى هو أن الحراك ليس تجربة فلسفية بالضرورة أو أن البعد الفلسفى له بعد لاحق تماما وليس جوهريا فى التجربة. وهذا يقودنا إلى التساؤل القديم المتجدد الذى هو: هل كل تجربة إنسانية قابلة للتفلسف فى أمرها؟ أو السؤال: هل كل موضوع هو موضوع فلسفى بالضرورة؟
والإجابة التى أراها الأقرب إلى الصواب تسير فى مسارين: الأول هو وجود مسافة ضرورية بين عالم الفعل action وعالم التأمل réflexion، وهى مسافة ندعو إلى عدم محاولة ردمها/ مما يجعل الحراك بعيدا عن التأمل الفلسفي.
أما فى المسار المقابل فأعتقد أن الفكرة الكلاسيكية التى تجعل كل موضوع موضوعا فلسفيا بالضرورة هى فكرة فقدت فعاليتها لسبب تاريخى بسبب هو انفصال العلوم المتخصصة عن الفلسفة، وهو أمر تسارع فى القرنين ١٨ و١٩... وبهذا صار قطاع كبير من التجارب الإنسانية خارجا عن الدائرة الفلسفية.
وقد عاد الإبستمولوجيون فى القرن العشرين إلى محاولة إعادة تأهيل موضوعات العلم للتأمل الفلسفى من خلال وجهات نظر الفلسفة التحليلية، وتجمعت التأملات فى وجهة النظر اللغوية ثم الخطابية (لودفيغ فيتغشتاين أولا ثم ميشال فوكو لاحقا) والتى تقول إن كل عملية تفكير هى نشاطات اللوغوس حول الموضوع أى أنها مسألة لغوية تتلاعب بالموضوعات داخل الصياغات لا غير (فيتغنشتاين) أو أنها مسألة خطابية أى تنظيم موضوعات لغويا وتعبيريا أو بنائيا لأجل تسيير مسائل السلطة التى هى أرصدة موضوعة فى بنك الخطابات لا غير.
إلا أن كل هذا لم يردم الهوة الجوهرية العميقة بين الحركة والفكر، وحتى الفلاسفة (أو العلماء) المعروفين باندراجهم فى العمل السياسى مثل برتراند راسل أو آينشتاين أو سارتر أو فوكو فهم يملكون وجهين مستقلا أحدهما هم الآخر: المفكر على ضفة والمناضل النشط سياسيا على ضفة أخرى.
يبقى أن حضور هذين البروفايلين للوجه الواحد فى الشارع وفى الساحة السياسية أو الاجتماعية أو فى ساحة النضال العمومى المباشر هو علامة إيجابية لا ريب فيها بالنسبة لثقافة أى بلد.
خلاصة القول
ليس حراك ٢٢ فبراير فى الجزائر طفرة ولا يستطيع أن يكون كذلك. وجوانب الطفرة فيه هى المظاهر التعبيرية التى هى وليدة الزمن الحالي. الإيقونوغرافيا الخاصة، الشخصيات الشهيرة التى تتحول إلى أيقونات تعبيرية أو إلى علامات سميائية يتحاور الشباب من خلالها.
هل اكتشف الجزائريون من الشباب لغة لهم على هامش ألم عميق ثم حراك مدهش؟
استحضار صورة لاعب كرة شهير ووضع كرة كلامية على لسانه للتعبير عن الاستياء العام من السياسة الجزائرية التى أدت إلى الأزمة لا يفهم إلا فى الإطار السيميائى الذى يشكل شبكة توليد للدلالة وسقف تأثير مع اللمسة الخاصة التى تأتى بشكل مجهول من خلال عمل تصميم الصورة ذات البعد الكاريكاتورى المناضل سياسيا. وعلينا أن نقف متأملين ثنائية الإبداع والمجهولية، فالذى يقوم بهذه الإبداعات الأيقونوغرافية لا يهتم أساسا بإمضاء عمله، من منطلق ان الإمضاء يبقى للحراك الشعبى عموما، وغياب الإمضاء عن عمل نصفه بالإبداع عامة ما ييسر عملية التبنى الواسع من قبل جمهور الحراك الذى صار فى فضاء ثلاثة أسابيع يحسب بالملايين (الأرقام تتكلم عن حوالى ١٥ مليونا بتاريخ ١ مارس، وعما يتراوح بين ١٧ و٢٠ مليون متظاهر ليومى ٨ مارس و١٥ مارس)...وإذا كنا نقف حذرين من أى عمل إحصائى متسرع كهذا فإننا نستطيع قراءة المبالغة فى الأرقام سيميائيا كدلالة غير مباشرة على الهول الذى أصاب الناس إزاء الفلول غير المتقطعة والتى خرقت كل آفاق الانتظار لهذا الحراك.