الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الفن والعلم

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الذهن الإنسانى يحركه إحساس دائم بالاهتمام بكل الظواهر المحيطة به، ويحركه حب الاستطلاع لإدراك كنهها. هذا الإحساس المسيطر هو الذى أدى إلى الاكتشافات العلمية العظيمة والآثار الفنية الرائعة. ومن ثمّ فالفنان والعالِم يشتركان فى أشياء كثيرة. إنهما شديدا الاعتزاز باستقلالهما، ويشتركان فى العقل الخلاّق، والرغبة الملحة الخالدة فى الاستكشاف والمعرفة. ولأن الفن والعلم فرعان من فروع النشاط الذهنى للإنسان، فهما متناظران كما هما مختلفان.
إن أهم ما يتصف به الإنسان ويميزه عن سائر الأحياء هو أنه مخلوق مبدع. وسواء فُهِمَت كلمة «الإبداع» هنا بالمعنى الضيق الذى ينصب على الخلق الجديد فى ميادين الفن والعلم، أو بالمعنى الواسع، الذى يتعلق بأى تجديد يُدْخِلَه الإنسان على جوانب نشاطه مهما كان محدودًا، فإن الأمر المؤكد هو أن الإبداع هو الذى أتاح للنوع البشرى - على وجه التحديد - فرصة الارتقاء والتقدم المستمرين، والإبداع هو الذى أنقذ الإنسان من المصير الذى آلت إليه الأنواع الحيوانية كلها: وهو التجمد عند حدود وظائف معينة تُؤَدَى على نحو آلى بحت، دون أى تنوع أو تجديد، ودون أية قدرة على تطوير هذه الوظائف أو نقل الخبرات المكتسبة منها إلى الآخرين.
كان الفن منذ أقدم العصور تعبيرًا عميقًا عن الحياة الإنسانية، وقد عبرت كل الحضارات المعروفة عن أفكارها مستخدمة مصطلحها الفنى الخاص بها، وقامت بتقويم تلك التعابير الإبداعية تقويمًا واعيًا. أما العلم فإنه يحاول أن يشرح العمليات الطبيعية التى تخضع للقوانين الأساسية. إن كل عملية معينة توجهها قوانين محددة يحاول العلم تفحصها بوسائل تتماشى مع متطلبات ذلك الفرع المحدد من فروع العلم. لهذا فإن العلم يسعى إلى صياغة القوانين العامة التى يسير بمقتضاها هذا العالَم الذى نسكنه.
يحاول العلم أن يقدم لنا الحقيقة عن الموضوعات التى يدرسها سواء كانت حجرًا أو نباتًا أو حيوانًا، وبهذا المنهج تقدمت الحضارة. والتفسير العلمى يرد المركبات إلى عناصرها، والعالِم لا يكتفى بوصف الحقيقة دائمًا، بل يعنى بتفسيرها؛ أى بفهم العمليات المختلفة على أنها نتائج لأسباب. فالوصف والتفسير أساسيان فى البحث العلمي.
فى مجال العلم نستخدم ملكة الاستدلال العقلي، وإذا استخدمنا الحواس فى المشاهدة والملاحظة فنحن نحرص على أن تكون حواسنا أو امتداداتها فى آلات الرصد أو التكبير أو التصغير، مطابقة للواقع وملتزمة به التزامًا كاملًا. ولو فعل الفنان ذلك لضاع منه كل ما هو ممِّيِز له، إذ إن الالتزام بالواقع، الذى هو فضيلة فى مجال البحث العلمي، يغدو مظهر نقص وعلامة ضعف حين يكون هدفنا هو خلق عمل فنى يتسم بالجمال، فالفنان صاحب خيال واسع قبل كل شيء، أو لنقل على الأصح: إن الحد الفاصل عنده بين الخيال والواقع يختفى لكى يحل محله تداخل وتشابك بينهما. فهو ينظر إلى الواقع بعين الخيال، ويضفى على صوره ورؤاه الخيالية كيانًا واقعيًا، ويجسم أخيلته كما لو كانت حقائق فعلية تروح وتجيء على مسرح الحياة.
ويترتب على الفارق السابق أن سعى الإنسان إلى الحقيقة يجعله مقيدًا وملتزمًا بما هو موجود، على حين أن سعيه إلى الجمال من خلال الخيال هو سعى حر طليق. فالعالِم الذى يبحث عن حقائق الأشياء لابد له أن يخضع نفسه لنظام صارم دقيق، يتخلى فيه عن أهوائه وعن ميوله الذاتية لكى يدرس الظواهر كما هى، لا كما يريدها أن تكون. وبعبارة أخرى فإنه يُخْضِع عقله لطبيعة الظاهرة التى يدرسها، ويدربه على أن يراها على ما هى عليه، بحيث يكون قانون الظاهرة نفسها هو هدفه ومبتغاه، وعلى العقل أن ينحنى دائمًا أمام الضرورة الحتمية الكامنة فى الأشياء. أما الفنان فقانونه الوحيد هو الحرية. وهو يتعمد أن يخالف النظام الفعلى للأشياء ويصورها على نحو مغاير لما هى عليه بالفعل، وربما خلق لنفسه، فى مجال فنى معين، عالَمًا خاصًا به، يخالف كل ما هو موجود فى عالَم الطبيعة. فالفنان الموسيقى مثلًا يخلق لنفسه عالمًا خالصًا من الأصوات المتآلفة، عن طريق الآلات الموسيقية، التى تصدر عنها أصوات لا وجود لها فى الطبيعة، ويتحرر بذلك من قيود الصوت الطبيعي، الذى هو عادًة ما يكون خشنًا، محدودًا، يسير على وتيرة واحدة، لكى يخلق لنفسه عالمًا كاملًا من الأصوات المتسقة والمنسجمة، أصوات ذات إمكانات هائلة، ويتحرك فى هذا العالم بحرية تامة يتجاوز فيها كل ما تقدمه إليه الطبيعة.
وبالمثل فإن الشاعر أو الروائى حين يمسك بقلمه وأمامه صفحة بيضاء لم يبدأ بعد فى تدوين شيء فيها، ويكون فى موقفه هذا رمزًا لحرية الفنان الكاملة: فالورقة أمامه خالية من كل شيء، وهى لا ترغمه على أن يكتب فيها شيء بعينه، بل إن له الحرية التامة فى أن يكتب أى شيء أو فى ألا يكتب شيئًا. إنه يستطيع أن يخلق على الورق عالمًا كاملًا من صنعه هو، دون أن يقيده أو يحد من حريته شيء.
ولنأخذ لتوضيح هذا المعنى موقف «العالِم» ونظرته إلى البحر، فهذه النظرة تتجه فى الغالب إلى البحث فى عناصر المادة التى يتركب منها، أو البحث فى استعماله أو ما يمكن أن يترتب عليه من فوائد تُسْتَغل منه، ومثال ذلك لو اكتفينا بتأمل البحر بحيث نحدد نظرتنا إليه فى تأمل لون مياهه، وصوت أمواجه ونسمات الهواء الصادر عنه؛ فعندئذ نكون فعلًا فى موقف التذوق الجمالى له، ولا شك فى أن الفنان هو القادر على خلق هذه الاستجابة عند الجمهور بما يتضمنه عمله الفنى من وسائل وقيم يستجيب لها جمهوره ومجتمعه، أما إذا كان هدف الفنان أو المصور أن يبين لنا ارتباط البحر بشاطئ معين، أو كان اهتمامه منصرفًا إلى أن يقدم لنا معلومات، فعندئذ يتحول الموضوع الجمالى إلى موضوع إعلام Information عندئذ لا نحصل على لوحة جميلة مثلًا بقدر ما نحصل على إعلان معين. فالعمل الفنى هو إذن العمل الذى ينجح فى أن يوجه انتباهنا إليه فى ذاته معزولًا عن ارتباطاته التى نستمد منها معرفة تفيد سلوكنا، وعندئذ يصبح هذا الموضوع جماليًا.