الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ليس له عنوان

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بعض الحديث عن عبدالحليم، يتدفق فى خاطرتى الآن، فيركض على الورق، جامحًا، كحصان فك القيود لتوه، وبعضه قديم، قدم وجودي، أو فلتقل: قدم تشكل ذائقتى الفنية، وانبثاق وعيى بمعانى الحياة، وقيم الحق والخير والجمال، وأيضًا الحب.
فى نحو الرابعة، من عمري، تهجت طفولتى أبجدية الحب، من صوت حليم، وفيما بعد رافقنى خطوة فخطوة، فى رحلة حياة، أحسبها صاخبة، رحلة دخلت فيها التجارب، مرة بعد مرة، والمعارك جولة بعد جولة، وخرجت بعد كل مرة، مثخنًا بجروحي، مذبوحًا قلبي، أرنّم: «آه يا ليلي، آه يا عيني، يا اللى شفت فى عنيا الدموع، وأنا دايمًا راجع وحيد».
فى بيت سكندرى يقبع فى غلالة من وداعة، شاء القدر أن أولد، لأب وأم مزاجهما الفنى «حليمى خالص»، يبدأ اليوم بصوته الناعم كحد خنجر، ينساب من جهاز التسجيل بالدعاء: «اجعلنى صادق أقول الحق لو كان مُر، اجعلنى ما أسمعش إلا صوت ضميرى الحر»، وفى الظهيرة، ينساب بـ«صافينى مرة»، و«أهواك»، و«على قد الشوق»، وفى الليالى الشتوية، يترقرق بـ«رسالة من تحت الماء»، و«يا مالكًا قلبي».
حليم إذن، جزء من تكوينى المبكر، جزء من «نسغ خلاياي»، جزء من وجدانى الذى تشكل تلقائيًا وعفويًا.
على أن الأمر، أعمق من ذلك، فبجوار الشغف بغنائه، ثمة عامل آخر، فالطفل الغرير، الحزين إلى حد ما، والصموت إلى حد كبير، والذى أتقن القراءة إتقانًا مبهرًا، وهو دون السادسة، لم يكن يترك حرفًا تبثه الصحف والمجلات، عن مطربه المحبّذ، إلا التهمته عيناه.
تراجيديا حياة العندليب، ما بين اليتم، والملاجئ، وصولًا إلى الإصابة بالبلهارسيا، ساهمت فى صناعة رابط وجدانى متين بينه وبين الطفل، رابط «ضفّرتهُ» يد التعاطف الحانية، إن الأطفال لا يعرفون إذا أحبوا، منطقة البين بين.
لا يحبه مطربًا فحسب، بل روحًا بائسًا، يحزن حزنًا طفوليًا نقيًا عليه، يرفع كفيه الصغيرين إلى السماء، سائلًا الرحمن الرحيم، فيما الدموع تتكثف فى محجريه، أن يشفيه، موقنًا فى الإجابة.
براءة الفتى صوّرت له، أن الحياة طيبة كالأفلام، وتحديدًا، مثل «حكاية حب»، حيث يصاب المطرب الشاب بداء فى القلب، حتى إذا ما تبدد الأمل فى الشفاء، تنبثق الرحمة بجراح عالمي، يعلن اكتشاف طريقة لعلاج تلك الحالة، فيسافر إلى فرنسا، وتتكلل الجراحة بالنجاح، ليعود فإذا بحسنائه مريم فخر الدين، على أرض المطار، فيغرس على شفتيها بوسة عميقة، مثلما يغرس بستانى شتلة ياسمين، فى حديقة.
سيعود لا محالة، سيعود، كما فى الفيلم... ذاك ما آمن به الفتى، متى كان حليم فى عاصمة الضباب، يجرى جراحة، قيل وقتها، إنها ستنهى رحلة «المشى على الأشواك»، وسيرجع، ليقدم من كلمات مرسى جميل عزيز، وألحان عبدالوهاب: «من غير ليه».
لكن القدر له تصاريفه، له مفاجآته، له قراراته المباغتة، التى يعلن عنها متى اتُخذت، من دون اعتبار، لأنها ستمزق قلب صبى غرير إلى شرائح.
زخّات مطر خفيفة، فيما الطفل يسير وادعًا، من بيته إلى مدرسته، فى آخر أيام الشتاء السكندرى الشجي، يلتقى عند محطة كليوباترا صديقًا، يبتسمان، تتشابك يدان صغيرتان، يخبره الصديق أن العندليب رحل.
العبارة تزلزل الأرض، إنه يواجه ذاك المخلوق الغامض المرعب: الموت، للمرة الأولى، فى حياته، إن الخبر الأليم يدخل لحم قلبه كسكين مشرشّر، لا يفهم ماهية الموت تحقيقًا، يتساءل: «لمّ يرتحلْ؟/ هل كان يشكو من مللْ؟/ هل تاه فى أرضِ الضبابْ/ حيث العيونُ بلا مُقلْ».
يجلس الفتى على رصيف مبلل بالمطر، يخبئ وجهه فى كفيه الصغيرين، ينشج بأسى مرير، والمارة يربتون على رأسه، يحاولون عبثًا أن يطيبوا خاطره، لكنه أبدًا لا يهدأ، وما هى إلا ثوانٍ، حتى قام، كأن مسًا من الجن أصابه، فطوّح حقيبته، ومن ثم ركض عائدًا إلى البيت، قرع الباب بأقصى قدرات راحتيه، فتحت أمه، ارتمى فى حضنها: «عبدالحليم مات يا ماما».
الأم التى تعلم طبائع قلب صغيرها، أو بالأحرى «هشاشته»، تضمه بلهفة إلى حضنها، ثم تطلب إليه تغيير ملابسه، ومن ثم تنزل مسرعةً، للبحث عن حقيبة المدرسة.
يدلف الصغير غرفته، قدماه ثقيلتان، كأرتال الشقاء، يتكوّر فى زاوية من سريره، فيما جدته لأمه تتلو المعوذتين، وهو يضع رأسه بين ركبتيه، يتدفق من عينيه الدمع سخينًا، وصدره يعلو ويهبط، كمرجل يغلي.
ساعة الجنازة، بكت أمه، ودمعت عينا أبيه، وبكت مراهقات العائلة، أما هو فقد جَمُدَ فى سريره، يرمق التليفزيون «الأبيض والأسود» صامتًا، يكبح الدمع فى مآقيه، حتى إذا ما غادروا الغرفة، أخذ يصرخ كالمحموم.
مثلما تعلم من حليم ما الحب؟ تعلم من موته أن الرحيل قد يحدث فجأة.
مثلما تفتح وعيه على «ترانيم الغرام» التى بعثرتها حنجرته فى دمائه، تفتح على أن الموت حقيقة الحقائق، ففهم أن الموتى «ليس لهم عنوان»، إلا فى قلوب الذين أحبوهم بإخلاص.
رحم الله حليم، بقدر ما آلمنى فعلمني، وبقدر ما استوطن صوته دائمًا، قلبى الذبيح.