الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

يونس القاضي.. بداية ظهور المسرح السياسي في مصر

ثورة ١٩
ثورة ١٩
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يعتبر مسرح يونس القاضي، هو بداية ظهور المسرح السياسى فى مصر، حيث لم يعتمد القاضى على مخاطبة المثقفين فقط من خلال كتاباته وإنما وصل إلى الجمهور العادى من ولاد البلد، وساهم احترافه فى كتابة فن الزجل إلى هذا، حيث ظهر خلاله الرموز السياسية والروح الثورية، عن طريق التورية واستخدام الرموز للحصول على تصريح وعرض العمل من الرقيب البريطاني، وذلك من خلال الأغانى العامية ذات المدلول الفكاهى أو العاطفي، واستخدام كلمات مطاطية وتحمل مدلولًا أو مفهومًا ذات مغزي، وحرفية استخدام تلك الكلمات بداخل السياق الدرامي، ولها أكثر من دلالة.
وكان المسرح وما زال أحد المجالات الذى انتشر فيها استعمال الرمزية، خاصة فى أوروبا منذ منتصف القرن التاسع عشر، فقد كان الكتاب والسياسيون يستخدمون المسرح حينما يعجزون عن توصيل المذاهب السياسية، بشكل غير مباشر، خاصة أن المسرح يجذب عددا كبيرا من كافة المستويات الاجتماعية والأعمار المختلفة، وبالتالى استخدم المسرح لغرس بعض المبادئ والأفكار نظرًا لجذبه أكبر عدد ممكن، فالمسرح هو المرآة التى تعكس مفاهيم وفكر المجتمع على مر العصور.
وهو الشيء الذى وجد أو ظهر جليًا فى مسرح يونس القاضي، حيث نجده قد وضع نصوصًا للعامة والفلاحين، والعمال، ولمس مشكلات مصر الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بكل جرأة، وألف نصوصًا فى سياق درامى قائمة على هدف وطنى على الرغم من تكوينها الكوميدى والعاطفى أو الاجتماعى إلا أن معظمها كانت تحمل فى طياتها هدفا سياسيا، والتى كانت نتيجتها خروج المظاهرات عقب انتهاء العروض المسرحية.
وهناك العديد من النصوص المسرحية التى قدمها يونس القاضى وكان أهمها مسرحية «كلها يومين» والتى تسببت فى اعتقاله لمدة ٤١ يومًا إثر خروج المتظاهرين، بعد انتهاء العرض من شارع عماد الدين لباقى ميادين القاهرة، وهى المسرحية التى كانت تتنبأ بخروج الإنجليز فى أقرب وقت، ليصبح يونس القاضى بعدها أحد أهم رواد المسرح السياسي.
وتُعد مسرحية «حسن أبوعلى سرق المعزة» من المسرحيات التى تم استلهامها من مقولة الزعيم سعد زغلول «أحرار فى بلادنا، كرماء لضيوفنا» والتى قدمها مسرح كازينو دى بارى بشارع عمادالدين، وكان أبطال هذا العمل هم شلبى فودة، وصالحة أصيل، وعلى الكسار.
وقد قام على الكسار بدور عثمان عبدالباسط الذى كان من المفترض أن يقوم به الممثل عثمان أمين، والذى رفض صباغة وجهه بالفل المحروق، وقام الدور بدلًا منه على الكسار، الذى اشتهر بهذا الدور وأجاده، وهو الاسم الذى صار ملازما لعلى الكسار فى جميع أعماله السينمائية فيما بعد، وقد استوحيت المسرحية كلها من كلمات الزعيم سعد زغلول والتى ألقاها فى إحدى خطبه.
أما ثانى مسرحية سياسية فهى مسرحية «كلام فى سرك» لفرقة منيرة المهدية والتى عرضت فى ١٣ نوفمبر عام ١٩١٩، بدار التمثيل العربي، وكانت من تلحين كامل الخلعي، وديكور مسيو لوريه رسام الأوبرا، ومن تمثيل منيرة المهدية، وأحمد فهيم، وعبدالمجيد شكري، وأحمد حافظ، منسى فهمي، ووردة ميلان، وجميلة سالم، وزكية إبراهيم، وكان عدد الألحان بالرواية ١٩٥ لحنًا على الأوركسترا، وتقوم فيها منيرة المهدية بدور كومندة المصنع، وحققت المسرحية نجاحًا مبهرًا، ولم يعد هناك من يستطيع منافسة منيرة المهدية وفرقتها فى مجال المسرح الغنائي.
ويحكى يونس القاضى أنه فى عام ١٩١٩ أرسل له محمود جبر زوج السيدة منيرة المهدية، لكتابة أغان لإحدى الروايات التى يؤلفها وأنه مستعجل جدًا، وليس أمامه وقت إلا ثلاثة أشهر، وأنه أبلغه لو كانت لديه رواية جاهزة، عليه أن يحضرها ويأتى له فى الصباح، حيث يقول القاضي: «فى ذلك الوقت كنت ساكن فى حى الظاهر ورجعت البيت ماشى وعند جامع الرويعى وأنا فى السكة جاءتنى فكرة كتابة رواية سياسية هدفها الاستقلال الاقتصادى وفى الساعة ٧ صباحًا جلست فى الكلوب المصري، وكنت أملك «٦ قروش» فطرت فول بالسمن بـ ١.٥ «تلاتة تعريفة» وشربت علبة سجاير عشرين سيجارة مانكونيان بـ خمسة تعريفة، وشربت فنجانين قهوة بـ، أربعة تعريفة، ولم يتبق معى مال وحتى الساعة ١١ إلا ربعا، وجاءنى رسول من عند محمود جبر، ذهبنا إلى دار التمثيل العربى فى الأزبكية، وهناك قابلت محمود جبر والفرقة، وذكرت لهم ملخص المسرحية، وبعدها ذهبت مع محمود جبر إلى الشيخ عبدالرحيم بدوى فى مطبعة «الرغائب» بشارع محمد على لطبع إعلانات الرواية، ووقتها سألنى عن اسم المسرحية فقلت له «كلام فى سرك ملقتلهاش اسم» فصاح الشيخ عبد الرخيم بدوى «كلام فى سرك» اسم جميل جدًا وجديد وأخذ يضحك وأصبحت المسرحية بهذا الاسم، وكان بالمسرحية ١٢ غنوة، ومثلت الرواية لمدة ثلاثة شهور.
وكانت تدور أحداث الرواية حول الدعوة لقيام النقابات العمالية، وكان الغرض منها تنبيه مصر إلى أنه ليس لديها بنك أو مصنع مصري، من خلال القصة التى تدور أحداثها فى أحد مصانع التطريز الذى يملكه الخواجة، والذى تعمل عنده ٢٠ فتاة مصرية، وكان يأكل حقوقهن ويسلفهن بالفوائد، حتى قررت إحدى الفتيات القيام بعمل جرىء وتجميع نقود من أفراد الشعب لإنشاء أول مصنع عربي، وبذلك يتخلصن من ظلم صاحب المصنع الأجنبي وهى المسرحية التى شاهدها طلعت حرب باشا والتى كان بسببها تم إنشاء أول بنك مصرى برأس مال ٨٢ ألف جنيه، وكانت من أهم الأسباب التى أدت إلى إنشاء مصنع النحلة الكبرى للغزل.
كما كان المتفرجون يتجمهرون بعد إسدال الستار عقب الفصل الأخير وكانوا يسيرون فى مظاهرات تهتف ضد الاحتلال والإنجليز.
وبعد النجاح الذى حققته مسرحية «كلام فى سرك» تم الإعلان عن أوبريت من ثلاثة فصول «كلها يومين» من تأليف يونس القاضى ومن ألحان سيد درويش وقدمتها فرقة منيرة المهدية، فى أوائل عام ١٩٢٠، والتى تنبأت بخروج المستعمر من البلاد وعودة الحق لأصحابه.
فتقول منيره المهدية تحت عنوان «كافحت الإنجليز بغنائي»: «كان الشيخ يونس القاضى أثناء ثورة ١٩١٩ يمدنى بكثير من الروايات الناجحة، التى كانت تدور حول كفاحنا ضد المستعمر البغيض، ولكن بطريق «الغمز واللمز والتورية»، لأن الرقابة التى وضعها الإنجليز على ما يقدمه دور المسرح والسينما والملاهى فى ذلك الوقت، كانت تحول دون مصارحة الإنجليز بكرهنا لهم، فيما نقدمه من روايات وأغان، وفى ذلك الوقت قدمت على المسرح الذى كنت أعمل فيه – دار التمثيل العربي- مسرحية اسمها «كلها يومين» وفى هذه لمسرحية كنت أقوم بدور بائعة زبدة، فأحمل فوق رأسى وعاء به بضاعتى التى أنادى عليها وكنت أقول: «صابحة الزبدة، بلدى الزبدة، يا ولاد بلدي، زبدة يا ولدي، اشترى واوزن، عندك وخزّن، واوع تبيعها، ولا تودعها، عند اللى يخون، لتعيش مغبون، وإزاى حاتهون، بلدي».
وتتابع منيرة «أن هذا الكلام لم يكن فيه ما يدعو إلى تدخل الرقابة، ولم يستطع الرقيب أن يشطب حرفًا واحدًا منه، ولكن كانت للأغنية معناها الذى يفهمه الجمهور جيدًا، والتى كانت تهدف إلى الحض على كراهية المستعمر الغاصب». وكانت المسرحية تضم العديد من الأغانى ومنها بونوسيرا سينوريتا، وشرفك لو ضاع، صابحة يا زبدة، مطلعة، ويحيا العدل يعيش العدل، وجانا الفرح جانا.
فكان عندما يسدل الستار فور انتهاء المسرحية، كانت المظاهرات تندلع وتهز شوارع القاهرة وهو ما اعتقل فى أعقابها الشيخ يونس القاضي، كما أنه تم إيقاف المسرحية سبع عشرة مرة لأنها تحتوى على عبارات ضمنية ضد بريطانيا، ولكن ظل الجمهور يتردد على هذه المسرحية حتى الإعلان عن المسرحية التى تليها دون توقف.