الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الموسيقى في الفكر اليوناني القديم

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«كل حضارة خلاصة جامعة لمحاولات غزو الإنسان للحياة، والفن هو قمة علامات هذا الغزو، فهو أسمى وحدة استطاع الإنسان تحقيقها.. وتُعّد اليونان القديمة من أقدر الشعوب إدراكًا لفن الموسيقى وأهميته فى الحياة إلى حد تسمية أى شخص مثقف مميز بالرجل الموسيقي». هذا ما قاله «بول هنرى لانج» فى كتابه: «الموسيقى فى الحضارة الغربية».
إن أقدم معرفة لنا بالموسيقى فى الحضارة الغربية ترجع إلى كتابات الفلاسفة اليونانيين، وما قالوه عن الموسيقى لم يكن يتسم بالأصالة التامة؛ إذ إن الكهنة المصريين كانت لديهم فكرة راقية عن هذا الفن. فقد كانت الموسيقى موجودة حتى عهد ما قبل «أوزيريس» الذى رحب بهذا الفن وبسط عليه حمايته، واستخدمه هو نفسه بنجاح كبير. فيقال إن «أوزيريس» كان يحب المرح والبهجة والموسيقى والرقص، وكان يستبقى حوله على الدوام فرقة موسيقية من بينهم تسع عذراوات كن بارعات فى كل الفنون التى تتصل بالموسيقى؛ وقد سماهن اليونانيون «ربات الفنون».. كما ظهرت مثل هذه الآراء لدى حكماء الشرق قبل العصر الذهبى لليونان بوقت طويل، غير أن فضل الفلاسفة اليونانيين إنما يرجع – كما يقول «جوليوس يورتنوى»– إلى تنظيمهم للنظريات الموسيقية الموروثة عن أسلافهم وبذلك خلفوا لنا تراثًا من الفلسفات الموسيقية القديمة، بل إن أصل كلمة «الموسيقى» ذاتها يرجع إلى اليونانية. وكان يُنظر إليها فى الأصل بطريقة شبه أسطورية على أنها فن أوحت به مباشرة وخلقته ربة الفن «موزي» Muse.
وعلى الرغم مما تتضمنه هذه المبادئ السابقة من مواقف سلبية من الموسيقى، فإنها تنطوى على اعتقاد راسخ بقوة تأثير هذه الفن على الإنسان، وبأن الموسيقى قوة هائلة يستطيع الإنسان أن يستغلها فى الخير والشر على السواء، ويمتد نفعها أو ضررها حتى يشمل المجتمع بأسره، وما يسوده من نظم اجتماعية وسياسية. لذلك كان الفلاسفة والمفكرون – منذ عهد أفلاطون – ينظرون بعين الحذر إلى هذه القوة السحرية الجبارة، ويحاولون وضع الضمانات التى تكفل استخدامها لأغراض تلائم القيم التى يدعون إليها.
أما «فيثاغورس» مؤسس العلم الرياضى عند اليونان، فقد رأى أن الأعداد مبادئ الأشياء جميعًا وأصول طبائعها. وقد توصل إلى هذا المبدأ نتيجة لدراساته الموسيقية، إذ أدرك أن تنوع الألحان الموسيقية واختلافها، إنما يتوقف على أطوال الأوتار فى الآلات العازفة؛ فاستنتج أن التوافق أو الانسجام الموسيقى تحدده نسب رياضية مضبوطة تترجم عن هذه الأطوال وتعين طبقة اللحن الموسيقي. ولما كانت الأعداد تتصف بصفات أخلاقية كامنة فيها (لأن الطبيعة خيرة فى أساسها) فمن الواجب تقييم الموسيقى على أسس أخلاقية. وقد أدت هذه النظرة الأخلاقية للموسيقى إلى صبغ الكتابات اليونانية فى الفلسفة الجمالية للموسيقى بصبغة أخلاقية اكتمل نموها عند «أفلاطون».
ورأى «سقراط» أن للموسيقى القدرة على تشكيل نفوس الصغار، وإعدادهم للحياة العملية. وكما أنه من الممكن تشكيل المجتمع تبعًا لأنموذج فى السماء، فقد كان يعتقد أن الموسيقى تستطيع ضبط النفس بحيث تنسجم مع الأنموذج نفسه المتغلغل فى سلوك الأجرام السماوية وفاعليتها. وقد روى «سقراط» – فى الساعات الأخيرة من حياته – حلمًا طاف به وهو نائم فى السجن، وسجل تلميذه «أفلاطون» هذا الحلم فى محاورة «فيدون»: «طالما أتانى الوحى فى الأحلام خلال حياتى بأن أؤلف موسيقى. وكان الحلم نفسه يأتينى تارة بصورة وتارة بصورة أخرى، ولكنه كان دائمًا يقول لى الكلمات نفسها أو ما يماثلها: «ارْع الموسيقى وألفها» وكنت أتصور حتى الآن أن كل ما هو مقصود بهذا هو حثى وتشجيعى على دراسة الفلسفة التى كانت هدف حياتي؛ والتى هى أسمى أنواع الموسيقى وأفضلها».
ولقد كان «أفلاطون» أشهر فيلسوف غربى يرى أن الموسيقى – بمعناها الكلاسيكى والحديث – ينبغى أن تستخدم من أجل تحقيق الأخلاق الصالحة، ولم تكن أراؤه عن مكانة الموسيقى فى المجتمع المنظم أصيلة تمامًا؛ كما أنه لم يكن أول من بحث فى التأثيرات الأخلاقية للموسيقى على الشخصية والسلوك الإنساني، ومع ذلك سيظل شخصية تاريخية فذة ينبغى أن نتخذها نقطة بداية فى كل بحث للفلسفة الجمالية للموسيقى فى الحضارة الغربية. رأى «أفلاطون» أن الموسيقى هى أرفع الفنون على أساس أن تأثير الإيقاع واللحن فى الروح الباطنة للإنسان أقوى من تأثير الفنون الأخرى. وعلى ذلك لابد من الانتفاع بهما فى تربية النشء وتشكيل الشخصية وإعداد العقل للدراسة الرفيعة وهى دراسة الفلسفة. وقد حدثت خلال حياة «أفلاطون» تجديدات موسيقية متعددة لم يقبلها ولم يتحملها، وإنما كان يتقبل فقط تلك الطريقة التقليدية التى يُكتب فيها شعر غنائى يُتلى أو يُغنى بمصاحبة الموسيقى.
واقتبس «أرسطو» جزءًا كبيرًا من فلسفته فى الموسيقى من «أفلاطون»، فاتفق مع أستاذه على أن الموسيقى فن مقلد صيغ على أنموذج الانسجام الكوني، ونظر للموسيقى – كما نظر اليونانيون عادة – على أنها صورة مباشرة للشخصية أو نسخة منها. ورأى أن المحاكاة الموسيقية لا تقتصر على الأحوال الشعورية فحسب بل تشمل الصفات الأخلاقية والاستعدادات الذهنية أيضًا. فالموسيقى التى يضعها شخص ما، تُشكل شخصية المستمع فى اتجاه الخير والشر، بمعنى أن الموسيقى انعكاس لصانعها. كذلك ردد «أرسطو» آراء «أفلاطون» بشأن الطابع الأخلاقى للموسيقى، فقد كتب فى السياسة يقول: «إن الألحان الخالصة هى بدورها محاكاة للخلق، ذلك لأن المقامات الموسيقية تختلف تمامًا الواحد عن الآخر؛ كما أن تأثيرها فى سامعيها يختلف؛ فبعضها يجعل الناس فى حزن وهم، وبعضها الآخر يضعف الذهن، وغيرها يحدث مزاجًا معتدلاَ مستقرًا... فالموسيقى القدرة على تكوين الشخصية، ومن هنا كان من الواجب إدخالها فى تعليم الصغار».