الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

واستعاد طائر العلياء منزله

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى وداع طائر العلياء.. وسام الدويك
فى خطوة طفولة نزِقة انزلقت قدماه، فأصاب جبينَه شقٌّ ظل أثره فيه بقية عمره، وقد قضى ما يناهز نصف هذا العمر بمعيَّة أمِّه، أمُّه التى كانت تخصُّه بأطيب قطع اللحم وأصدق مشاعر الحب، إذ كان بالنسبة إليها الاستثناء الوحيد الذى قد يجعلها تواجه زوجها الحبيب الذى تؤثر طاعته ورضاه دومًا، فتناقشه وتعارضه، بل وقد تُغضِبه لغضب هذا الصغير الأثير لديها. كانت هى أولى ملهماته، فكتب فيها الشعر أول ما كتب، وعرف فيها الحب أول ما عرف، فلما باغتته بالغياب المبكر المفاجئ، حفظ معها عهدًا لم يكشفه لنا إلا قريبًا، وظلت هى سرَّه المكنون، والحبيبة التى يندر ذكره لاسمها صراحة -إذ ما أصعب على المُحب من أن يتحدث بطلاقة وراحة عن حبيب راحل- والتى لا يملّ التغنِّى بسيرتها والتواصل الخفى معها كل حين.
كان وسام هو الابن الأول لرجل وامرأة جمعهما حبٌّ عظيم وقدرٌ ساحق، وقد زرع فيه أبوه مبادئ الشرف الحاسم والكرامة المصونة، وأودعته أمه سرَّ اللفظ والمعنى، فصارت روحُه توَّاقة إلى المعرفة مع الصدق، وكانت فطرته الأولى أن يسعى وراء الحقيقة والجمال بكل جوارحه، لا يوقفه عن سعيه ضيق ذات اليد، أو كلل ذات القدم، وكم جاوبته الحقيقة سعيًا بسعي، فكان كثيرًا ما يصل إلى حيث لا يستطيع غيره الوصول.
رأى وسام فى الوقت وسيلة وأداة، فكان يحسن استغلاله بكل براعة، إذ كان يستخدم الوقت فى جمع ما عرف ليكتب كتبًا كاملة، والسؤال عما لم يعرف ليبدع دواوين شعر مكمَّلة، وكان يتمِّمُ السؤال والجواب بالسفر، والنظر فى وجوه الناس وعيون الأرض، ولم تكُن الوجوه تبخل عليه كما لم تبخل العيون، فتحولت عيناه مع الوقت إلى أداة تصوير محترفة، صارت تلتقط لمحاتٍ لوجوه يعجبُ أصحابها كيف ومتى كانوا فيها! ولقطات للكون هو فيها أجمل ما يمكن لكونٍ أن يكون، وأوضح ما يمكن لروح أن تبصر.
اتصل وسام بكل روافد البصيرة، حين اختزن عقله كل معرفة استطاع الوصول إليها، وتشربت روحه النور كله.. كل نور الحياة ارتوت به روحه، فكان طبيعيًّا أن تتعدد كذلك روافد إنتاجه الإبداعي، فوضع كتبًا هى أقرب ما تكون إلى البحث العلمى الرصين، وألَّف أخرى تُصَنَّف بأريحية فى باب الأدب الكثيف، كما أحب دومًا إصلاح النصوص ورصد الظواهر اللافتة، ثم عاش سنواته الأخيرة وشغفه الأول هو التقاط الصور لكل جميل تلمحه عيناه.
كان وسام مسحورًا بسِيَر المبدعين من قبله، فكتب إلى جانب الشعر ما اصطُلح على تسميته «تأريخ السيرة»، حتى لقد كان يُعرِّفُ نفسَه بكل وضوح على أنه «مؤرخ سيرة»، فاختار من بين المبدعين واحدًا كان الأصدق إبداعًا والأقل حظًّا ليُثرِى سيرته بكتاب عظيم، لو عاش الرجل لشكره عليه كل يوم وليلة، كما كتب عن حبيبته فيروز وعن جيفارا وغيرهما من أصحاب الأرواح المدهشة كروحه. كتب عن صاحب سر الشعر الكبير، وكان له شعره الخاص فكتب ديوانًا بالعامية وأربعة دواوين بالفصحى، كتب المقالات العديدة عن مصر القديمة، ومصر القادمة، وأرَّخ للثورة المصرية المجيدة بصوره وكلماته، كتب عن كل ما رأت روحه بصدق روحه، فكانت ألفاظه بسيطة نافذة، وموسيقى أشعاره شجية ومبهجة فى نفس الوقت.
أحب وسام التاريخ، إذ كان تخصُّصه الأول ودراسته الأكاديمية، فآثر على نفسه أن يترجم هذا الحب إلى فعل ومبادرة، وذلك حين جمع مَن شاركوه هذا الحب والشغف ليصحبهم مرتين فى كل شهر على مدار العام فى جولات جماعية، ظاهرها المرح والترفيه وباطنها التثقيف والمعرفة، فكانت له مجموعته المتجددة والمتزايدة التى استمرت أكثر من خمس سنوات فى برنامج منظَّم وضعه بنفسه لزيارة أهم الآثار فى محيط القاهرة بالكامل، فى تجربة رائدة من نشر العلم وحب الوطن فى آن واحد.
لكن وسام رغم كل هذا الحب للحياة والوقت قد عارك الحياة والوقت مرَّات غير قليلة، عاركهما حين واجه الظلم والإقصاء المتعمَّد وهو يحمل على كتفيه أربعة أبناء وامرأة، فكانت الدنيا بخيلة ظالمة، وكان هو صبورًا محاربًا، ويشهد الله وكل من عرفه مِن قُرب أنه ظلّ يُسدِّد ويُقارب ما استطاع إلى السداد والمقاربة سبيلًا...
ثم مات.
لم يمُت وسام لأنه انهزم فى حربه تلك، فقد كانت له انتصاراته الصغيرة الجمَّة التى تعينه على البقاء، وكانت له روحه التى تعشق الحياة عشقًا غريزيًّا راسخًا، كما لم يمُت كمدًا رغم أن لمثله أن يموت كمدًا بكل تأكيد! لكنه مات اكتمــــالًا، ترك الدنيا وهو منها شبعانُ مرتوٍ، تركها بعد أن «التهمها التهامًا» على حدّ قوله، تركها لأنه نال منها ما لم ينَلْ غيرُه، ثم لم تعُد لعبة الحياة تغريه بالاستمرار، كما لم تعُد حربها شريفة على أى حال.
فتركها...
قرَّرَ ففعل، فى دقائق معدودة، احتجَّ القلب مرتين، فلمَّا قاوم الأطباءُ احتجاجَه الأول وأسقطوه، احتجَّ ثانية، حين توقف قلبه عن العمل رغم إذابة الجلطة الكبيرة التى اعترضته قبلها بساعة واحدة.
ألقى وسام ابتسامة على وجه مرافقيه، ورفع يده بعلامة أن الأمور كلها على ما يرام، لم يُلقِ قلبُه بالًا للمسات الكهرباء ولا صواعقها، وباغتنا جميعنا بالصمت الأخير.
ترك وسام خلفه ذرية غيرَ ضعاف، وإخوةً انفرط عقدهم الخماسى الجليل وانقضّ جدارهم المتين، ترك حبيبة صابرة، وأهلًا ومحبين كُثْرًا، ترك كل هؤلاء، ليستعيد وصله بالحبيبة الأولى، حقَّق وعده الذى لم يدركه أحد إلا حين وفَّى به، أن يلحقها فى السماء كما كان ظلَّها دوما على الأرض، مات فى نفس سنِّها الشابَّة الفتيَّة، مات كما ماتت، بسرعة مباغتة ومفاجأة خارقة.
مات نقيًّا قويًّا، أبيض القلب والروح واللسان.
فكان وسام.. صاحب ندبة الجبين العتيقة، ندبة الركض لاستكشاف الحياة، هو نفسه وسام الذى زهد ذات الحياة فى لقطة واحدة.
انتصر وسام بكل تأكيد.. انتصر حين ترك لنا كل هذه الكتب ودواوين الشعر والصور والمقالات.. وانتصر أعظم انتصار حين ترك أسطورته الباقية، أسطورة رجل أحب الدنيا وصاحبها، وعاركها وحاربها.. ثم أفلتها بكل زهد واستغناء، مطمئنًّا بجيش من المحبين سيكمل ما بدأه، وقبائل من الصادقين الذين تَلقَّوا رسالته البهيَّة وفهموها، ليظلوا بقية العمر يذكرونه بحب متجدد وألم لطيف، رسالته التى قالها على امتداد سبعة وأربعين عامًا وبضعة أشهر فقط لا غير:
«اكتبوا عنى والتقطوا لى صورًا.. لا تحزنوا إن غبت فإننى أُطِلّ عليكم من الصور ضاحكًا دومًا. كونوا صادقين، وانهلوا من الحياة سعادة ما استطعتم. كونوا شرفاء، فليس للمرء قيمة أعظم من أن يكون شريفًا. حاولوا.. حاولوا.. لا تيأسوا من المحاولة، ثم متى اخترتم الغياب، فاجعلوا غيابكم باهرًا كما كان حضوركم، ثم... كونوا صادقين ما استطعتم.. كونوا صادقين.. كونوا صادقين».
ولعل عندى سرًّا صغيرًا عنه يجوز لى كشفه اليوم، سرًّ اكتشفته على مهل عبر سنوات وِدادِنا الخلَّاقة الساحرة:
«كان وسام بالأساس طائرًا من طيور السماء، حدث أن مسَّ جناحاه أطرافَ الأرض، فعمَّر فيها ما عمَّر بقلبِ الطير الأخضر المغوار، ثم سرعان ما تركها، لكنه عندما تركها.. كانت أجمل كثيرًا مما كانت حين حل عليها، كان وسام شهابًا من نور تَجلَّى لثوانٍ، ثم... استعاد طائر العلياء منزله».