الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

هندسة الميتافيزيقا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى رواية فيليب ك ديك P.K.Dick المبكرة «solar lotery يانصيب المجرة» (١٩٥٥)؛ وهى رواية ربما نفهما اليوم فى عصر العولمة أكثر من فهم قراء عصر الحرب الباردة، نشهد عملية اختيار حاكم المجرة «رئيسنا» عن طريق جهاز يمارس لعبة يانصيب كبرى فى مكان هو «ساحة المجرة»، فيها مترشحون وممثلون من كل مكان فى المجرة (سيتساءل قارئ الخمسينيات عن أى المعسكرين يتحكم فى دعوات الحضور، لكى يتساءل قارئ اليوم: أى جماعة مالية إعلامية تتحكم فى المدعوين للتصويت)... والأسئلة التى تتحرك فى فراغات الرواية هى أسئلة حول معنى الحياة، وحول طريقتنا الخاصة فى ترتيب هذا العالم؟... بالمعنى الإغريقى لترتيب العالم فكلمة «كون cosmos» فى المعجم الإغريقى تحيل على الترتيب أكثر من كونها تحيل على الخلق، كما هى حالها فى العربية مثلا... وجدير بالانتباه كون الشرط الذى وضعه أبونا الذى فى الأرض «أفلاطون» لأجل دخول الأكاديمية هو أن يكون الطالب المتفلسف عارفا بالهندسة، هذا العلم العجيب المركب الذى كان القدامى يعرفونه بأنه على فن «مسح السطوح»، أى أنه يتطلب معرفة نظرية ومعاينة جسمية وحسابا جبريا تنتهى كلها إلى معرفة ذات خصوصية وتميز وسط المعارف الأخرى. وتظل المعضلة قائمة فى ظل ضرورة وجود قياس هندسى وضرورة أخذ الميتافيزيقا بعين الاعتبار.
وإذا قمنا بمقارنة سريعة بين ظاهر الفلسفة القديمة والفلسفة الحديثة لقلنا بأنهم قديما كانوا يمارسون الفلسفة كطريقة فى العيش لا كخطاب يتداولونه، وأن الوحيدين العاكفين على الخطاب كانوا أعداء للمجتمع الفلسفي؛ أقصد السوفسطائيين. 
هل الفلسفة هى نوع من خلق عالم خاص بنا؟ أم أنه حقنا فى الخلق الذى ينسى أغلبنا أنه يملكه فتذكره لافتة معينة على مدخل أكاديمية أفلاطون؟ أم أنها بحث هاديجيرى بأرمينيدى لسبل تكشف الأشياء والمعانى وظهورها؟
غالبا ما يدور «عمل» الفلاسفة على تدوير بعض الأسئلة بين أفواههم التى تملك تسميات كثيرة يتذكرونها بسرعة فيما نتباطأ نحن كى نتذكرها؟ (الفرنسى «روجي- بول دروا» يعرف الفلاسفة أنهم أطفال لم يتخلصوا من الأسئلة التى تخلص منها الجميع).
أسئلة تتجول على الرصيف الكونى لرواية فيليب ديك، مثلما تنام بين دفتى كتاب جيل دولوز وفيليكس غواطارى «ما الفلسفة؟» من قبيل: كيف نفكر؟ من يفكر لأجلنا؟ ما معنى أن يمثلنا أناس نسميهم حكاما (أم حكماء؟) أين تسكن الحكمة وما معناها ثم ماذا نفعل بها؟
يبدو أن الفلسفة لا (لم ولن) تخرج من دائرة هذه الأسئلة. والرواية مكان جيد للتفكير فى هذه المسائل لسبب واحد هو فراغ كتب الفلسفة من عروض اللبنات الأساسية للحياة: الكآبة، الصداقة، الرغبة، اللذة، القسوة، الحب، الغيرة، الأمل، النفور، الصبر... وهى مواد تولع بها الروايات بشكل مرضيّ ومرضٍ، فيما تلحقها الفلسفة بدوائر الميتافيزيقا.
فى هذا السياق، يذكرنا جيل دولوز بضرورة الحذر مثلا من الأحكام الغريبة التى تختفى خلف كلمة «الذوق» (وهى طريقة خفية لتكرير بعض صناعات الرأي)، إذ يقول: «حذار من الخداع فى مسائل الذوق العام؛ فهو موجود فى الكتب (أو فى الفلسفة) وغير موجود فى الحياة. إنها جوهر معنى الميتافيزيقا.
بما أننا نفكر آليا ونفكر باستمرار؛ فإنه علينا أن نتساءل: هل من الضرورى للتفكير أن تكون لدينا دوافع نفسية أو أسباب أخرى؟
يمكن للمرء أن يقول بعد ذلك أن هذا الفيلسوف يقوم بمرافقة حيوية للمشتغلين فى حقل معين، تماما كما يفعل «المعلم» أو «المرشد» أو le gourou... وذلك من خلال العمل على شأن ما يجيب أسئلة من قبيل: من نحن، ومن أين أتينا، ثم إلى أين نحن ذاهبون؟
الفلسفة ستكون وسيلة لملء النقص، الرغبة فى التركيز على العناصر الغائبة عن المشروع المتزامن مع كل منا لاستكمال الشرط البشري. بذلك ستتمكن الفلسفة من أن تكون طريقة معينة للمقاربة النفعية/الجمالية للمعرفة العلمية أو الفنية، ولتحقيق الحاجة الجمالية، أو الاستجابة للأشواق الصوفية الباطنية أو للاستجابة لحاجة الإنسان الملحة لملء خانة الشعور الديني.. يسمى دولوز هذه العلمية «خلق المفاهيم»، وهو تعبير صحيح رغم شعورنا القوى بأنه قد تم استعماله حد التلف.
ويعن لنا هنا سؤال لا يخلو من خبث متأدب، خبث العقول القلقة التى وصفها هيجل بأنها وحدها العقول التى تفكر: ما المساحات التى كان أفلاطون يقترحها على طلبته/فلاسفته المتعلمين المحدثين حينما تكون الأرض التى نتحرك عليها هى أرض الميتافيزيقا؟
كيف سيتم مسح الأراضى البيولوجية والسيكولوجية والماورائيات مجهولة الأصل التى يبدو أننا نعرفها منذ أن.. (لا أحد يعرف منذ متى؛ لأنها بدهيات لم يكلف أحد نفسه عناء النظر فيها ومعاينتها)..
فى تصور فيليب ديك خلل معين لأنه ينتهى فى نهاية التاريخ إلى النقطة التى بدأ منها الإغريق الذين كانوا يختارون حكامهم بواسطة القرعة لما لاحظوه من شبه نهائى بين جميع المنتخبين: القرعة واليانصيب كلاهما فتح لباب الهندسة العزيزة على أفلاطون لكى يدخل الاعتباط والتقريب واللامعقول الذى يسكن خطابات الزمر الثلاثة التى كان دوما يحاربها: رجال المعبد والسوفسطائيون والشعراء...
سيشفع لأفلاطون رفضه الجوهرى للنظام الديمقراطى الأثيني، وهو ما دفعه للتفكير فى أن يكون الملك هو نفسه العالم/الفيلسوف.
يبدو أن التكشف الإغريقى (الأليثيا التى استعادها كمفهوم الظواهريون) لم ينبئ بشيء مثير لأفلاطون ففكر فى أن الذين يخرجون إلى العالم هم عبيد بالضرورة (وهو واحد من وجوه التأويل الكثيرة لأمثولة المغارة)... الرؤية نفسها سينطق عنها هايديجير حينما يقول: «كل رجل بمجرد ولادته يكون كبيرا بما يكفى ليتمكن من الموت».
السؤال المهيمن على هذا المقال هو: لماذا نشتغل على الفلسفة؟
ستكون إجابة ملفقة من الإجابات الممكنة هى أننا نفعل ذلك لإفساح مجال للتعبير لنقصنا ولمحدوديتنا، وجهلنا وعجزنا إزاء الموت. وكذلك لتأكيد قوة العقل البشرى الذى يتمكن دوما من تحقيق حرية عسيرة لنفسه لكى يمارس فعل التفكير (النشاط الحر للعقل الذى كثيرا ما أشاد به أفلاطون وهيجل وآخرون كثر). إننا نتفلسف كذلك لأجل الاستجابة للتجربة الأخلاقية لتصبح إنسانية وتقترب من الكمال. كما نتفلسف أخيرا لشحذ طرائق المطالبة السياسية ولممارسة الحق فى التعليم السليم والخبرة الموضوعية، ولضمان جودة النقاش الديمقراطى والمستوى اللازم لذلك من ذكاء الناس.
على الضفة المقابلة سيبقى الروائيون شغوفين بصورة الطلبة الملتفين حول سقراط، يتناقشون، يتساءلون، يتحاورون فى لعبة مرايا؛ فكل متحاور إنما يرى نفسه فى مرايا محدثيه، طلبة يمارسون الحياة مع التكوين أو التعلم، ويتعلمون فيما هم يحيون. 
وهذا هو بالذات ما نجده فى رواية «ثرثرة فوق النيل» لنجيب محفوظ، ولكن الحديث هنالك يدور حول نفسه لغياب الفيلسوف وحضور «غياب» الملك...
اللقطة النهائية للرواية هى أن الأكاديمية التى فى الرواية (وهى عوامة على النيل يتخذها الأبطال كمكان لممارسة الحديث الحر بعيدا عن السياق السياسى لليابسة) تنفلت من اليابسة فيما المتحادثون يدخنون الحشيش غير واعين بأنهم يعومون بلا هدى على مياه النيل. السؤال الوحيد الممكن طرحه هنا هو: هل سيغرق صاحبنا الذى يقوم بمسح سطح النيل لأجل التمكن من دخول أكاديمية نجيب محفوظ؟
ولكن هذه مسألة أخرى.