الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الحكومة العصرية ومقامات رفاعة الرمزية «1»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم يتوقف رفاعة عن البوح فى مقاماته بألمه وآماله وها هو يتحدث فى المقامة الخامسة عن نظام الحكم الذى يرجوه لمصر، وهو ذلك النظام الجامع بين الحياة البرلمانية التى يقودها العقلاء والنبهاء والعلماء ودستور جامع بين المبادئ العملية والمقاصد الشرعية، وملك يملك ولا يحكم وفق هواه أقرب إلى الرئيس المنتخب منه إلى السلطان وارث العرش، يقود البلاد وفق عقد مبرم ومدون فى دستور، وتنبثق منه قوانين لا يستثنى من تطبيقها أحد ولا ينجو من مخالفتها ملك ولا مملوك. وهذا التصور لم يسبقه إليه أحد فى الفكر العربى الحديث، الأمر الذى يبرر تخفيه ورمزيته وألغازه. 
وحسبنا قبل الشروع فى تحليل كتابات رفاعة السياسية لمقابلتها ومقارنتها بما أورده من آراء وشروط وتصورات للحياة السياسية فى مصر فى كتابه (وقائع الأفلاك) أن نشير إلى وعيه التام بضرورة تربية العقل الجمعى سياسيًا، ويبدو ذلك بوضوح فى دعوته لتدريس الفكر السياسى لطلاب المدارس بالقدر الذى يتيح لهم التعرف على نظم الحكم وحقوق الرعية على الحاكم وواجبات الشعب تجاه الملك أو الرئيس أو الوالي، وذلك فى كتابه «مناهج الألباب»، ويقول: «وما المانع من أن يكون فى كل دائرة بلدية معلم يقرأ للصبيان، بعد تمام تعليم القرآن الشريف والعقائد وأصول العربية ومبادئ الأمور السياسية والإدارية ويوقفهم على نتائجها، وهو فهم أسرار المنافع العمومية».
وحقيق بنا أن نشير أيضًا إلى نضج ثقافة الطهطاوى السياسية، ويتمثل ذلك فى إلمامه بنظم الحكم الأوروبية من خلال دراسته للقانون الفرنسى، وترجمته لكتاب «روح القوانين» لمونتسكيو، وقراءته لكتاب «العقد الاجتماعى» لجان جاك روسو، بالإضافة إلى العديد من الكتب السياسية التى تتحدث عن أشكال الحكومات (الأتوقراطية – الثيوقراطية – الديمقراطية – الدكتاتورية) بالإضافة إلى سير الممالك والملوك فى أوروبا.
أما عن مجمل آرائه السياسية؛ فيمكننا القول إنها مضطربة نسقيًا فى الظاهر ومتسقة موضوعيًا فى الجوهر، فنجده فى كتاب «تخليص الإبريز»، قد أعلى من شأن الحياة البرلمانية والمجالس النيابية وحقوق الرعية وقوة القوانين وحق المحكومين فى الثورة على الحاكم إن جار أو أساء أو أخطأ أو خالف القانون، وإدانته وخلعه- مع اعترافه أن ذلك مختلف عما هو موجود فى كتب السياسة الشرعية، أى أن القانون الفرنسى عقلانى علمانى لا دخل للدين فيه، وأن مقصده هو معالجة الواقع واختيار النافع- فإنه ينزع إلى العكس من ذلك فى كتابه «مناهج الألباب» - وكذا فى كتبه «الاجتهاد والتقليد» و«المرشد الأمين» و«نهاية الإيجاز» - فيغالى فى حق الملك أو الرئيس ويجعل فى يده كل السلطات بما فى ذلك السلطة النيابية والسلطة القضائية، فهو الذى ينسب إليه تقنين القوانين، ويباشر القضاة سلطتهم نيابة عنه، فضلًا عن أن سلطة تنفيذ الأحكام ترجع إليه لا يشاركه فيها غيره.
أضف إلى ذلك أن تنصيب الملك لا دخل للرعية فيه، بل هو نظام ملوكى وراثى بحسب ما جاء فى فرمان ١٨٦٦م، الذى جعل حكم مصر حكم وراثيًا فى إسماعيل وبنيه.
أما عن حق الشعب فى مساءلة الحاكم؛ فلم يذكر الطهطاوى عنه شيئا واكتفى بالتأكيد أن الملك خليفة الله فى أرضه، وأن حسابه عند الله، فإذا أخل بواجباته وأساء فى تصرفاته إلى درجة الاعتداء على حقوق الرعية، فلم يجز الخروج عليه أو الطعن فيه، بل نصحه والدعاء له بالهداية والرشاد، مع الطاعة والتزام الصبر، وهو رأى الأشاعرة والجمهور. 
واكتفى الطهطاوى بالتأكيد أن أهل الحل والعقد، يجب عليهم توجيه السلطان باللين والرفق، ومن ثم لا يحق لأحد مراجعة الملك إلا إذا خالف شرع الله بكفر بواح، فحلل حرامًا أو حرم حلالًا، لذا نجده يستفيض - فى جل كتاباته - فى خطاب الوعظ الخلقى المفعم بالحث على الورع والتقوى والعدل والكرم، وغير ذلك من فضائل، مبينًا للحاكم ضرورة الالتزام بالروح الأبوية تجاه من يعولهم حتى لا يدينه التاريخ أو تسخط عليه الرعية.
وقد اختلف النقاد والمحللون السياسيون حول ذلك الاضطراب النسقى والتناقض السياقي، ومع ذلك فإن جلهم قد اتفق على أن رفاعة فى كتابه «تليماك»، لم يكن مترجمًا فقط - كما كررنا - فقد ذهب تلميذه صالح مجدى ( ١٨٨٢ – ١٨٨١) إلى أن بصمة رفاعة الطهطاوى فى هذا الكتاب ليست واضحة فى أسلوبه ولغته فحسب، بل فى وضعه العديد من أفكاره فى متنه القصصى ومضمونه، ويعنى ذلك أن رفاعة الطهطاوى قد وضع فيه الكثير من الأفكار الأخلاقية والسياسية للخاصة، ويعنى ذلك أننا أمام خطابين، أحدهما مباح والآخر مسكوت عنه، وسوف نبرر فى السطور التالية علة الألغاز والتورية والغموض والتغطية. 
فيقدم لنا الطهطاوى فى هذا الكتاب «مواقع الأفلاك فى وقائع تليماك» صورة مثالية للحكومة ونظام الحكم، فيقدم الحكم النيابى الأرستقراطى على غيره، وملك يملك ولا يحكم، بل هو كالرعية تحت طائلة القانون، فيسير بوفقه ويحكم بمقتضاه ويعاقب إذا ما خالفه أو تقاعس عن تنفيذ ما فيه، ويعتلى عرشه بعد انتخابه من أهل الحل والقعد، ويقول: «إن الملك صاحب النفوذ فى الرعية تمشى عليهم أوامره ونواهيه المرضية، أما أحكام المملكة وقوانينها وشرائعها المدونة؛ فإنها بنفوذها تجرى عليه وتحكمه، وليست هينة فهو مرخص فى إجراء العمل الصالح وتنفيذ صالح من المصالح، فإذا أراد إساءة الأعمال فإن يديه عن فعلها فى سلاسل وأغلال».. ونستكمل حديثنا فى المقال المقبل.