الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

النخبة وليبرالية 1919 (8)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كانت هبة الشعب المصرى عام 1919، قد وجهت الضربة القاضية لذلك التيار الذى كان يتزعمه الحزب الوطنى بقيادة مصطفى كامل، الذى كان متأثرًا بفكر جمال الدين الأفغاني، ذلك التيار الذى كان مناصرًا للأتراك باعتبار أن حكم الأتراك لمصر حق طبيعي، وكان هذا التيار قد ضعف وتجمد بعد الحرب العالمية الأولى فى مقابل صعود التيار «الوطني» الذى اعُتبر تيار التحديث والإصلاح فى إطار الوطنية المصرية، والذى كان يقوم على أن تستقل مصر عن الدولة العثمانية استقلالًا تامًا، وأن تستقل أيضًا عن بريطانيا، وتتحرر من الهيمنة الأوروبية، وكان أهم رموز هذا التيار محمد عبده، قاسم أمين، لطفى السيد، سعد زغلول.
وقد كانت هبة عرابى خطوة البداية لهذا التيار، حيث إنها كانت رمزًا عمليًا لرفض سلوكيات الخديو توفيق، الذى يمثل الدولة العثمانية والخاضع لبريطانيا، ولذلك يمكن أن نقول إن النتائج السلبية التى نتجت عن هبة عرابي، وأتت بالاحتلال وزادت من استبداد الحكم ومعاناة الطبقات الفقيرة، هى التى فجرت أحداث 1919 التى شارك فيها كل طبقات الشعب المصرى تعبيرًا عن رفض الاحتلال والاستبداد.
حديثنا هنا عن الأشخاص والأحداث لا بد أن يخضع لتقييم الظروف السياسية والواقع الاجتماعى والاقتصادى، الذى يحدد صورة المعطيات الواقعية للتقييم، كما أن هذه المعطيات هى التى تحدد المواقف والرؤى السياسية والانحيازات الشعبية للأشخاص المشاركين فى الحدث، كما أننا لا نبخس حق أحد، فالجميع شارك من منطلق وطنى مصرى أيًا كان انتماؤه الطبقى والسياسى والاجتماعى والديني. لكن الإشكالية هنا هى الأكلشيهات التاريخية والشعارات السياسية المتوارثة، والتى تأثرت بالموروث المصرى الذى يميل إلى سحب القداسة على المقدس وغير المقدس فى إطار نوع من المبالغة الشعبية فى تمجيد الرؤساء والزعماء بعيدًا عن الموضوعية وأحيانًا كثيرة مخالفة للواقع، فيطلق على 1919 أنها هى التى أسست للفترة الليبرالية، خاصةً بعد دستور 1923. فماذا كان موقف زعماء 1919 من دستور 1923، وما هو موقفهم عمليًا من هذه الليبرالية؟ بالنسبة لدستور 1923 فقد كان الصراع بين سعد زغلول وعدلى يكن قد أخذ مداه حتى إن هذا الصراع قد قسم الوطن إلى سعديين وعدليين بشكل لا يتوافق مع ما حدث فى هبة 1919، التى جمعت وحشدت كل قوى الشعب المصرى الذى كان يرجو أن يكون هؤلاء الزعماء صورة جميلة، ورد فعل حقيقى لهذه الهبة العظيمة، ولكن كان الوضع غير ذلك، فقد تشكلت لجنة الدستور التى لم يكن راضيًا عنها سعد زغلول لأسباب شخصية بينه وبين بعض أعضاء هذه اللجنة، فرفض هذه اللجنة ونعتها بأنها لجنة الأشقياء، بل ذهب فى وصفهم بأنهم برادع الإنجليز، فى الوقت الذى حصد فيه سعد زغلول وحزبه الأغلبية، ووصل إلى الحكم بموجب هذا الدستور، بل ظل سعد وحزبه،أثناء وجود سعد وبعد وفاته فى ظل رئاسة النحاس وحتى الان فى التراث السياسى الموروث أن دستور 1923 هو أهم وأعظم الدساتير المصرية، فى الوقت الذى رفض فيه سعد لجنة الدستور من الأشقياء وبرادع الإنجليز! 
ولا شك هنا أن دستور 1923 كان حدثًا ديمقراطيًا فى ضوء الواقع السياسى حين ذاك، ثم رأينا محمد محمود الذى شارك فى وضع دستور 1923 يقوم بتعطيل الدستور بعد أن أصبح رئيسًا للوزراء، ثم انقلب صدقى باشا رئيس الوزراء على دستور 1923 وأصدر دستور 1930، وهنا وجدنا النحاس يتحالف مع محمد محمود لعودة دستور 1923، وإسقاط دستور 1930. وفى ظل دستور 1923 قَبل النحاس بالوزارة، بعد أن داس الإنجليز على الدستور وكرامة الوطن والملك، بعد محاصرة الملك بالدبابات فى 4 فبراير 1942 لإجبار الملك على أن يشكل النحاس الوزارة رغمًا عنه، والأهم أنه فى ظل هذا الدستور، الذى يزعمون أنهم صانعوه وحمُاته، رأينا العبث بالبرلمانات والحكومات لا ينتهي، فلم تكن العبرة بالدستور ولا حمايته ولكن كان الهم الأكبر لكل هذه النخبة السياسية والطبقية هو أن يتناوبوا على الحكم ويتمتعوا بالنفوذ، وذلك أيضًا باسم الدستور. فالدساتير ليست نصوصا جامدة والدستور ليس دوره المباهاة بالديمقراطية والليبرالية، ولكن الدستور نصوص تُحترم وقواعد تُفعل على أرض الواقع بعيدًا عن الاستغلال الذاتى أو الحزبى أو الفخر التاريخي.
أما الليبرالية وعلاقتها بهبة 1919، فهذا موروث توارثناه دون إعمال عقل أو عصف فكر ودون مناقشة وبحث وكأن هذا مقدس لا يجب الاقتراب منه.
نعم، إن المناخ الفكرى الذى بدأ مع هبة عرابى وأكمله محمد عبده ولطفى السيد، كان يجنح إلى تفعيل الحرية التى تمثلت وقتها فى التخلص من الاحتلال، فكان من الطبيعى أن تنسحب فكرة الحرية إلى باقى مجالات الحياة السياسية وغير السياسية، فهذه طبيعة الأشياء وسنن التطور للأمور، فكان فريق المفكرين، وعلى رأسهم لطفى السيد وطه حسين، الوقود والطاقة الفاعلة لتكريس وتأسيس الليبرالية، وهذا غير الممارسة السياسية للزعماء الذين لا علاقة لهم بمفهوم الليبرالية العلمى والسياسي، ونذكر هنا بعض الأمثلة لهذا، فعند مشكلة كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ على عبدالرازق، ماذا كان موقف سعد زغلول الليبرالى؟ قال زغلول: «قرأت كثيرًا للمستشرقين ولسواهم، فما وجدت من طعن منهم فى الإسلام حدة كهذه الحدة فى التعبير على نحو ما كتب الشيخ على عبدالرازق. وما قرار هيئة كبار العلماء بإخراجه من زمرتهم إلا قرارًا صحيحًا لا عيب فيه»، لا فض فوه!! فى الوقت الذى وقف فيه حزب الأحرار الدستوريين، وهو حزب وطنى، مساندًا للشيخ على عبدالرازق فى قضية كتاب «الإسلام وأصول الحكم».
كما تمثلت علمانية سعد ووفده فى قوله عن طه حسين حين قامت مظاهرة ضد طه حسين من الأزهريين؛ فقال لهم: «هب أن رجلًا مجنونًا يهذى فى الطريق فهل يضير العقلاء شىء من هذا؟!».
نعم شهدت هذه المرحلة تجربة ليبرالية لمفكرين من طراز خاص طرحوا الفكر الليبرالى وفق ما اطلعوا عليه، ولكن الشائع أن مصر شهدت تجربة ليبرالية مع دستور 1923، ولكن الواقع يؤكد أن مصر لم تشهد تجربة ليبرالية حقيقية، فالملك يعصف بالحكومات والانتخابات تجرى فى ظل احتلال والقانون ينص على شروط تقتصر الترشح على أبناء الطبقة العليا من كبار الملاك مما يتعارض مع الليبرالية الحقيقية. فهل كانت النخبة السياسية مؤسسة بالفعل لهذه الليبرالية أم تسعى فقط لمصالحها الذاتية والحزبية؟ سنكمل المقال القادم بإذن الله.