الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

عباس الديب.. بين أمي والقرآن "1"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
نصحتنى أمى بقراءة ديوان «بين أمى والقرآن» للشاعر الكبير عباس الديب خال أمى.. والذى نحتفل فى الحادى عشر من مارس بذكرى مولده الأولى بعد المائة.. وقد تشرفت بمجالسته مرات عديدة وأنا طفلة صغيرة، وكان أول من عرفنى معنى اسمى «رشا» وهو «الغزالة الصغيرة».. أتذكر أنه كان إنسانًا لطيفًا حنونًا مضيافًا.. أمسكت الديوان لتصفحه فأبهرنى أنه عبارة عن قصيدة واحدة وتعالج مشاكل العصر، وبها إجابات للأسئلة التى تدور فى عقول الشباب، وهو أول ما ينشر للشاعر من مجموعة أشعاره التى تزيد على عشرين ألف بيت من المدائح النبوية وقصائد التوحيد والأناشيد الصوفية.
قال الشاعر فى مقدمة الديوان: «دفعنى إلى كتابته حديث للرسول عليه الصلاة والسلام عن الشباب حيث أوصانا بهم خيرًا، فهم ذخيرة الأمة وعلم رفعتها وحملة رسالتها ومنار حضارتها.. فقد أصبح شبابنا هدفًا لغزوات فكرية ضارية تستهدف قيمنا العتيدة التى ورثناها ويدسون لهم كل فارغ أجوف، يزينون له التفاهات ما يضرب به فى تيه الضياع.. ووجدت شبابًا يسأل فلا يسمع إلا إجابات لا تشفى غليلًا ولا تقيم حجة ولا تقتلع شكًا ولا تعمق إيمانًا، فأيقنت أن مهمة الدعاة الصادقين لدين الله أن يستنقذوا أرواح شبابنا وقلوبهم وعقولهم من هذا الطوفان الأخرق فسألت الله واستعنته فى جلاء بعض من هذه الخواطر الخطرة».. بنى الشاعر ديوانه على فكرة حوار شعرى بينه وبين أمه - رغم أنه يتيم الأم منذ كان فى الثالثة من عمره - يسألها وتجيب لأهم مشكلات الدنيا والدين.. وقد عبر الشاعر بإبداع عن فكرة ديوانه من خلال عنوانه الذكى للديوان، والذى يحمل معنيين الأول أمى بمعنى الأمومة والثانى أمى بمعنى الأمية، وكلاهما صحيح.
ويسعدنى أن أسرد مقتطفات من هذا الكنز المتروك «أماه كم علمتِنى معنى الحياة وكم وكم/وغذوتنى بالصبر حلو العيش فى دنيا الألم/وسقيتنى بالشكر كيف السمو بأن أسامح من ظلم/علمتِنى أن المذلة للورى شر النقم.. علمتنى أن التُقى صحو الضمير فلم ينم/علمتنى وسقيتنى وغذوتنى أذكى النعم/أترينى أجد الوفاء لكل ذا لا.. لن.. ولم/لكننى سأقص للدنيا حديثك حيث تم/لترى الخليقة كلها أمى كما خط القلم///أماه نحن من اليتامى واليتيم هنا قطيع/هاتيك دنيا تشترى حق اليتيم ولا تبيع/هاتيك دنيا سادها ظلما رقيعٌ أو وضيع/أين العطاء!! وذا بلاء حالك طحن الجميع/إنى سئمت وما فهمت إلام نحيا كالقطيع/وتسمرت أمى وعيناها تغطيها الدموع/أظننت يا ولدى بأن الفقر فى عرى وجوع/أو كان فقرا أن نعيش على ذُبالات الشموع/الفقر فى النفس الذليلة أُشرِبت معنى الخنوع/الفقر فى العصيان ينزع منك أنوار الخشوع/الفقر أن ترضى بغير الله يوما فى ركوع/الفقر!!.. أين الفقر من قلبٍ أبىٌّ أو قنوع/الفقر خوفٌ.. والهدُى أمنٌ بآلافِ الدروع/الفقر حاشا فالرضا بين الحنايا والضلوع/ما عُدت لى ولدًا إذا لم تأتِ ربك فى خضوع».
تحدث عن أوجاع اليتامى والفقراء، بينما عبرت أمه عن الرضا والإيمان.. وتساءل عن العدل فى قوله: «فسألتها.. وإذن فأين العدل بين العالمين/ والعدل من أوصافه سبحان خير الحاكمين/فأنا فقير ضائع أشكو زحام المترفين/ أين العطاء من البلاء هنا لمن ذاق السنين/قالت وربك لو عرفت لقلت ذا عدل مبين/هذا له مالٌ..وذا ولدٌ.. وذا علمٌ ودين/هذا له زوج عقيمٌ.. إنما من المحسنين/هذا له طفلٌ تحيّر فيه طبُ الأقدمين/كل تَساوى فى العطاءِ وفى البلاءِ وعن يقين/لكنما تَخفَى أمورٌ بيننا أو تستبين».. وسألها عن التشكيك فى الألوهية: «فسألتها يا أم.. يزعم بعضهم ألّا إله/ ألّا إله يدير هذا الكون.. يخلق ما نراه/وبأن هذا الكون خالقُ نفسهِ وعلى هواه/وتعللوا بالعقل..لا خلّاق عندهمو سواه/وبأن هذا الدين أفيون الشعوب ولا هُداه/بل كلهم طلاب دنيا.. كلهم طلاب جاه/وبأن بعد الموت لا بعثٌ هناك ولا حياه/فتعجبت أمى وقالت..ويلتا..واسوأتاه/أو ينكر الحق العلى مكذبٌ.. تبت يداه/نستغفر الله الذى تعفو لعزته الجباه/أرأيت هذا الكون يا ولدى تخبّط فى المسير/أرأيت بذرة حِنطة ٍ قد أنبتت يوما شعير/أرأيت شهد النحل تصنعه مع النحل البعير/أرأيت طيرا تخطئُ العُشّ الذى فيه الصغير/فبأى عقلٍ هذه الأكوانُ تعقلُ أو تسير/ولكل عقلٍ كبوةٌ.. مهما بدا كالمستنير/فالعقلُ فى الإنسان يخطئ فى الصغير وفى الكبير/أترى.. تراب الأرض أعقل من مفكرك الخطير/أم أن هذى فتنةٌ من صُنع أفاقٍ حقير/كلا.. فكل الخلق تعرف ربها حتى الحمير».. وعندما سأل عن التعصب: «فسألتها يا أم ما للناس قد ضلوا الطريق/وغدوا على جهلٍ جهولٍ بالعدوَ وبالصديق/ يتعصبون بلا هدى وكأنهم رأسُ المضيق/هذا كفورٌ ذا جهولٌ ذاك بِدعىٌ عريق/هم وحدهم جندُ الإله وغيرهم أهل الحريق/ويقودهم مُتبجحٌ بالزهد يُرديه البريق/متفيهقٌ بلسانه والقلبُ سفاحٌ عريق».. وكانت الإجابة الرائعة على لسان الأم: «قالت بنى فهؤلاء خوارج الفكر العتيق/فالدين دين الله ليس لمدعى العلم الصفيق/والله لو ملك الجهول لكان كلَّ دمٍ يُريق».. فكان الشاعر سباقا فى وصف هؤلاء المتشددين والجهلاء والدخلاء على الدين بالخوارج، وكان مدركا بأنهم لو وصلوا إلى الحكم فلن نر إلا إراقة الدماء.. وللحديث بقية عن الكثير من قضايا العصر الشائكة، التى تناولها الشاعر الكبير والعالم المستنير.