الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

علم النفس عند ابن سينا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كانت الأمراض النفسية ومازالت أخطر - فى بعض الحالات - من الأمراض الجسمية، نظرًا لخفاء أسبابها وتعذر التعرف عليها، فضلًا عن صعوبة الشفاء أو الخلاص منها. ولقد بلغ ابن سينا فى اهتمامه بعلم النفس شأنًا عظيمًا.
عنى ابن سينا بعلم النفس عناية لا نكاد نجد لها مثيلًا لدى واحد من رجال التاريخ القديم والوسيط، فاستوعب مسائله المختلفة استيعابًا، واستقصى مشاكله وتعمق فيها تعمقًا كبيرًا، وأكثر من التأليف فيه إلى درجة ملحوظة، ومع أن ابن سينا قد استعان كثيرًا بآراء أرسطو، إلا أنه قد أفاد أيضًا من مصادر أخرى لم يستفد منها أرسطو، وعلى الأخص الدراسات الطبية والتشريحية لعلماء القرون التالية لعصر أرسطو. ومن هنا نستطيع أن نفهم السبب فى أن علم النفس السينوى يفوق فى مواضع كثيرة علم النفس الأرسطي.
ولا تخرج بحوث ابن سينا السيكولوجية عن مذهبه الفلسفى فى جملته، فهى مجهود متصل فى الجمع والتركيب والتوفيق والاختيار. وكما تأثر علم النفس السينوى بآراء السابقين، فإنه أثر تأثيرًا بالغًا فيمن جاء بعده، فكان له نفوذ عظيم فى العصور التالية بين المسلمين، وأثر تأثيرًا بالغًا فى أفكار الفلاسفة اللاتينيين طوال القرون الوسطى، إما مباشرة أو على نحو غير مباشر.
ويقدم الدكتور «محمود فهمى زيدان» (نظرية المعرفة عند مفكرى الإسلام وفلاسفة الغرب المعاصرين، ص ص 204 – 205) بعض الملاحظات على الصور التى رسمها ابن سينا للإدراك الحسى عن الحيوان والإنسان:-
1- يعتبر ابن سينا أول الفلاسفة القدماء الذين ربطوا وظائف الإحساسات والخيال والذاكرة بشروطها الفسيولوجية، ويرجع ذلك إلى ريادته ونبوغه فى علم الطب، كما أن له فضلًا كبيرًا فى توضيح أوجه الشبه بين إدراك الحيوان وإدراك الإنسان. نعم سبقه أرسطو إلى تصور النفس الحيوانية، لكن لم يسبق أحد ابن سينا فى إلقاء الضوء الساطع على علم النفس الحيوانى كمدخل إلى دراسة علم النفس الإنسانى التجريبي.
2- أدرك ابن سينا بوضوح تعقيد عملية الإدراك الحسى وتركيبها من عناصر متعددة متداخلة، إذ يبدأ الإدراك باستخدام الحواس ثم الربط بين الأفكار الحسية المختلفة وكيفية إدراك المعانى التى ليست لها حواس خاصة كالشكل والحركة ونحوها، ولا ينسى دور الخيال والذاكرة فى تكوين الإدراك الحسي: بل لم ينس الإشارة إلى ما يسمى الآن حجة الخداع، وهى الإدراك الخادع، وكيف نميزه من الإدراك الحسى الصحيح. ويضع ابن سينا معيار التمييز حين يقول لا خطأ فى الإحساس وإنما الخطأ يكمن فى حكمنا عليه. ثم نشير إلى بعض أخطاء الحواس كظاهرة الهلوسة مثل رؤية الأشباح الكاذبة أو الأحكام التى تصدر عن المرضى ونحو ذلك كما نلاحظ وجه شبه بين ابن سينا وجون لوك John Locke (1632 – 1704) فى تمييزهما معًا بين إدراك الأشياء من الخارج، ويسميه «لوك» الحس الخارجى Outer Sense، وبين الحواس الباطنة، ويسميه «لوك» الحس الباطن Inner Sense، لكن بينما قصد بالحس الباطن قدرتنا على الاستبطان، أو إدراك حالتنا الداخلية، فقد جعل ابن سينا الحواس الباطنة عناصر أساسية لتكوين الإدراك الحسى ذاته. 
3- أخطأ ابن سينا فى اعتبار ما نسميه الآن أفعالًا منعكسة لا إرادية غرائز مثل قوله إن الرضيع يتعلق بثدى أمه أو يغمض جفنيه حين تتعرض عيناه لأذى ونحو ذلك.
ولعل أبرز ما يميز علم النفس السينوى ويجعله سابقًا لعصره بشكل عجيب من جهة، كما يجعله من جهة أخرى يبدو عصريًا إلى حد مذهل، معالجته لمفهوم الوعى بالذات أو «الشعور بالذات» كما يسميه هو. لم يسبقه أحد إلى هذا المفهوم، حتى أرسطو نفسه الذى درس موضوع النفس البشرية باستفاضة كبيرة لم يشر إليه مجرد إشارة.
انتبه ابن سينا إلى التأثيرات النفسية على البدن، فها هو يقول فى «القانون فى الطب»:
«إن من المعالجات الجيدة الناجعة الاستعانة بما يُقـوِّى القوى النفسانية والحيوانية كالفرح ولقاء ما يستأنس به، وملازمة من يُسرَّ به».
لقد اشتغل ابن سينا فيما نسميه اليوم بالطب النفسانى الجسماني، أى الأمراض النفسية التى تنجم عنها أمراض جسمانية عضوية مما يدل على «طاعة الطبيعة للأوهام النفسية» حسب تعبير ابن سينا نفسه.
وعادًة ما تروى القصة الآتية - فى الكتب التى تتناول موضوع الطب العربى - للدلالة على براعة ابن سينا فى استخدام الأساليب النفسية فى علاج مرضاه:
«روى أنه دعى لعيادة فتى حار الأطباء فى علاجه، وفحصه ابن سينا فحصًا دقيقًا، فلم يجد به علة ظاهرة تسبب ما هو فيه من ضعف وهزال مخيف، وإخلاصًا منه لفنه أراد ابن سينا أن يعرف علة هذا المريض، فعمد إلى الفحص النفسي، فاستدعى أحد عرفاء المدينة (والعريف يومئذ أشبه بشيخ البلد أو شيخ الحارة عندنا الآن)، وتناول ابن سينا يد الفتى يجس نبضه وهو يسأل العريف أن يعد له أسماء أحياء المدينة، فأخذ يسردها حيًا حيًا، وعند ذكر حى بعينه تغير نبض الفتى، فطلب ابن سينا من العريف أن يسمى له بيوت الحي، فأخذ يسردها بيتًا بيتًا، فلما ذكر بيتًا معينًا زاد نبض الفتى اضطرابًا، وعندئذ سئل الشيخ الرئيس هذا العريف عن أسماء فتيات هذا البيت، فأخذ يعرضهن اسمًا بعد اسم حتى مر اسم واحدة منهن، فاضطرب عند ذكره نبض الفتى اضطرابًا شديدًا وزاد لونه امتقاعًا وساءت حالته. عندئذ قال ابن سينا لأهل الفتى: زوجوه هذه الفتاة، فهى الدواء وهى مصدر هذا الداء».
ويظهر أن ابن سينا كان يعتقد أن الفصل فى مشاكل علم النفس ليس من عمل الطبيب ولا يدخل فى دائرة اختصاصه، بدليل أنه يشير فى «القانون» إلى بعض نقط متصلة بالنفس وقواها اختلف فيها الأطباء والفلاسفة، ثم يصرح على الفور بأن الكلمة الأخيرة يجب أن تكون للفلاسفة.