الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

آلام قلم بين أوجاع الهموم وثقل المهام

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ينزع التفكيكيون إلى العزوف عن أى سلطة تحول بين حرية القارئ وتأويل النص، فى حين يرى البنيويون والاجتماعيون وعلماء التاريخ أن النصوص الأدبية والفلسفية على وجه الخصوص لا يمكن فهمها أو فض أختامها الملغزة، وإزالة ستائر اللغة عن الأفكار الرئيسة التى ينسجها الأديب أو الفيلسوف فى خليفة اللوحات النصية - إلا بعد الإحاطة بالملابسات والحياة الثقافية التى واكبت النص لحظة كتابته وإبداعه لها - ويضيف علماء النفس أن للمشاعر الحظ الأكبر بين المؤثرات التى تشكل بنية النص ولاسيما تلك النصوص التى تتعلق بالأمور الحياتية التى يحياها البشر.
ومن أشهر الآراء التى تؤيد الرأى الأخير ما ذهب إليه برتراند رسل (١٨٧٢ -١٩٧٠) ذلك الذى رفض تماما نظرية «موت المؤلف»، ولعل فلاسفة النقد الثقافى، من أمثال الأمريكى ارثر برجر، كانوا أصدق من غيرهم فى اعتبار النص يسكن فى أحشائه كائنات حية لا يمكن القضاء عليها أو تجاهلها لنحسن قراءة النصوص، فما تلك الكائنات البكتيرية سوى نسيج معقد من الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعقدية واللغوية والنفسية وغير ذلك من شئون الحياة، وقد تفاعل جميعها واحتلت موضع المداد فى قلم المؤلف، فُسطرت منه الكلمات والصفحات، وشكل المداد بدوره جوهر النص وعلاماته وإشاراته وألغازه. 
وعلى ذلك سوف نشرع فى قراءة نص الطهطاوى أعنى تعريبه «مواقع الأفلاك فى وقائع تليماك» الذى أزعم أن قلم الطهطاوى لم يكن مترجمًا أو معربًا فحسب بل كان قلمًا مبدعًا يحمل كل هموم وثقافة واهتمامات وطموحات المؤلف، ويبدو ذلك بوضوح فى إيماءاته وإحالاته القيمية، ولاسيما عند حديثه عن الحاكم العاقل، فلم ينس الطهطاوى أن محنته أو نفيه كان ظلمًا وبهتانًا من قبل حاكم اتخذ من العنف والصلف والجمود والرجعية صحبة وخلان، أقصد عباس طوسون باشا والى مصر الذى نفى الطهطاوى وتلاميذه وأصدقاءه بحجة تشييد مدرسة ابتدائية فى الخرطوم. 
وحقيقة الأمر أنه كان يخشى خطاب الطهطاوى السياسى الذى صرح ببعضه فى كتابه «تخليص الإبريز» عند حديثه عن الدستور والحياة النيابية وتشكيل الحكومة، والتوسع فى التعليم، وتثقيف الرعية وتوعية الجمهور فى فرنسا، فإن مثل ذلك المشروع كان على العكس تمامًا من شخصية الرجل الذى أغلق المدارس وأقال المئات من ضباط الجيش وسكر ورش تدريب الحرفيين التى أنشأها عمه إبراهيم باشا (١٧٨٩ - ١٨٤٨) إيمانًا منه بعبقرية المصريين وقدراتهم على استيعاب العلوم والفنون كما سرح عباس الأول طلاب المدارس الشرطية العسكرية التى أبدعها إبراهيم باشا أيضًا.
وقد تمكن القلق وسوء الظن من نفس عباس باشا فراح يسكن القصور النائية بعيدًا عن الرعية، وأحاط نفسه بحاشية من الأتراك دون المصريين، وأوكل لهم تسييس أمور البلاد الداخلية والخارجية، وأعطى أذنيه للإنجليز دون الفرنسيين الذين تعلم عندهم طلاب البعثات الذين شكلوا بعد ذلك الطبقة المثقفة فى مصر، وانتهى به المطاف بقتله على يد مجهولين.
فقد كتب رفاعة مقاماته وفى مخيلته مشروعه التنويرى الذى توقف تمامًا بمقتضى قرارات الباشا الوالى الذى لم يسلم من شره أحد.
ويبدو ذلك جليًا فى حرص الطهطاوى على أن يورد - فى مقدمة كتابه - بعض عبارات المدح لرأس الأسرة العلوية وهو محمد على الكبير (١٧٦٩ - ١٨٤٩) ووصفه بأنه الحاكم العاقل الغيور على مصلحة البلاد والأخذ بكل مقومات التقدم ونصائح المخلصين من ذوى الخبرة بغض النظر عن مللهم أو أجناسهم. 
ويقول: «ما أسعد الأمة التى يحكمها ملك عاقل، وسلطان عادل، وتعيش فى الرخاء والكرم والسخاء، وتكون سعيدة مرتاحة وتحب دوام ملكه، إذ هو السبب فى الراحة... وإدخال السرور على الرعية، وحب أفرادها وكأنهم عياله ليحظى بحبهم من حسن معاملته لهم، ويشعرهم بأن هذا الفضل من حسن تدبيره، نعم هو الحاكم العاقل الذى يقصد الراحة والمحبة لهم، وما يفعله من مكارم كالهدية التى أوجبتها المحبة الأبوية». 
وينزع الطهطاوى إلى أن الاحتكام للعقل وحده لن يوصل إلى السعادة الحقيقية، ولا يريد من ذلك نصح الملوك أو القادة فحسب بل يقرر ذلك باعتباره قاعدة عامة أو إن شئت قل أساس أصيل لحسن التدبير، لذا نجده يلح على أن المشورة تُقبل من ثلاثة: الأريب العاقل، والقوى الحازم، والملهم النابه. فمن أراد النجاة والفلاح فعليه الموازنة بين هذه الآراء واختيار أفضلها تبعًا للموقف والحال. وقد ذكر ذلك فى سياق حديثه عن بطل مقاماته «تليماك» ومستشاريه.
وينتقل مفكرنا إلى أسلوب الهمز واللمز فيذم الصفات دون تحديد الشخصيات، ويحط من شأن الفعال دون أن يذكر قيل وقال، فعلى سبيل المثال يعيب على بعض الأزهريين - الذين جحدوا مشروعه وراق لهم الطعن فى دينه وحسن نواياه - فيمثلهم فى إحدى مقاماته بأعيان المدينة الذين يفتون ويقررون ويقضون مدفوعين بانطباعاتهم الشخصية دون حجة أو برهان، ويكذبون من يخالفهم حتى لو كان من العلماء والحكماء الفضلاء المصدقين، ويقول على لسان الراوى «إن أعيان المدينة زعموا أنهم أرباب عقول وفطنة، وأنهم بمعزل فى اعتقاد الكهان».
وينتقل مفكرنا متخذًا من الإشارة دون التصريح بالعبارة إلى صفات الحاكم الفاشل الغضوب المتسرع الكؤد. 
ويقول عنه: «هو الذى تربى فى حجر الرخاوة والفتور، واعتاد على التكبر والفجور، لا يكترث بالرعية، ولا يقيم لهم وزنًا، ويظن أنهم مخلوقون لأجله، وأنه من طبيعة أخرى دون طبيعتهم، ومن طينة أخرى غير طينتهم، ولا يسأل إلا عن اتباع هواه وبلوغ ما يتطلبه ويهواه، ومناط آماله الإسراف، وصرف ما توفر بالاعتساف، وله تولع بعقاب الرعية، وإراقة دماء الأهالى المساكين، وسماع المتملقين، وقبول الشباب المجانين الذين يحيطون به من كل جانب، حيث إنه له شغف بإبعاد الشيوخ العقلاء عن المناصب، وهو من الملوك الطغاة الذين لا يشتغلون إلا بالتخويف والإرهاب، وهضم حقوق رعاياهم بقصد الطاعة ومنع الارتياب، نعم أولئك الملوك تصير لهم مهابة يخشى منها السطوة، ويحصل مرادهم بإظهار القوة والشوكة، إلا أنهم يصيرون مبغوضين ومنهم النفوس تنفر، ويخشى عليهم من غضبة رعاياهم حيث بهم تطفر».
ولا ريب أن الطهطاوى قد نجح فى نسج الستائر على النص المضمر خلف السياق القصصى، فقابل بين صفات محمد على الذى أكرمه وقلده المناصب وعباس باشا الأول الذى عطل مشروعه التنويرى وخلعه من نظارة مدرسة الألسن، ونفاه ومعيته إلى السودان.
وللحديث بقيه عن مقامات رفاعة الإصلاحية.