الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الرجل والمرأة.. بين الطبيعة والثقافة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فذلكة
كتب رولان بارط نصه الكبير «س/ز» عام 1970 كمحاولة لتفجير طاقات السيميائية للنقد، أو طاقاته البارطية (لأن لبارط نسخة متفردة من السيميائيات)؛ والحرفان «س، ز» يخيلان على اسمى بطل قصة بلزاك «سارازين»؛ وسارازين فى القصة اسم شخصية امرأة على مسرح الغناء نكتشف بأنها فى الأصل رجل مخصٍ بصوت ملائكي... على محور الثنائية الجنسية يبنى رولان بارط نصا نقديا ثتائى الدلالة على خيط ذهبى رفيع يتراوح بين التلميح الخفى والتصريح الجلي... يأخذ نصّ بلزاك فى النهاية شكل المعرفة التى يكورها بارط، وتحت مظلة «الرمز الثقافى» يطور بارط نقدا أيديولوجيّا قوى السند يتكئ على عمل المنهج البنيوى ومفاهيم التحليل النفسى لدى لاكان ومواقع ثرية غير نمطية من علم الاجتماع... فى تمرين كتابى تكتسب من خلالهم مضامين بلزاك كثافة ووجودًا لا نظير لهما.
يبين التعليق التوتر بين الجمالية «الواقعية» الحديثة، التى تبدو تقليدية، والقضايا البشرية الحاضرة فى الرواية البلزكية والتى هى شديدة الصلة بتأملنا فى المسافة بين الجنسين...الرجل والمرأة. الذكر والأنثى.

تنويعات 
تحدد كلمة جندر GENDER النوع، أو الجنس، كمقولة فلسفية (وهنالك من ترجم الكلمة «الجنوسة» بدلا من التعريب)، مقولة تمحورت حول الحركة النسائية والفلسفية النسوية، ثم أخيرا النقد النسائي.
والأصل فى المفهوم مصطلح لغوى ألسنى يشير إلى التقسيم القديم ضمنى فى النحو القواعدى اللغوي؛ والأصل هو الجذر اللاتينى generis بمعنى الولادة والتكاثر، وكذلك الجذر اللاتينى genus بمعنى الأصل، ومنها النوع genre، والصهر gendre،...الخ
لقد تطورت المفردة نفسها للدلالة على الأنواع الأدبية أو الأجناس الفنية من رواية ومسرحية وشعر وما يستتبع كل تلك الأصول من فروع... ولكنه مفهوم مستعص على الحصر بسبب اختلاف اللغات فى سلوكها مع قضية الجنس، فبعض اللغات لا يفرق بين الجنسين، وبعضها يستثنى غير العاقل من الأداء اللغوى للجنسين لكى نتساءل هل إن المذكر والمؤنث مسألة وعى وثقافة أم أنها معطى بيولوجى بحت؟
المقولة الفلسفية انطلقت من هذه المحطة صوب آفاق تتأمل فى كون ثنائية التقسيم الجنسى اعتبارا ثقافيا توافقيا، وكونه اختيارا ذكوريا هدفه ليس بريئا... وهى توقعات نظرية يصادق عليها الواقع الثقافى اللغوى (اللغوي= الحيوي= الاجتماعي= الحضاري). فمن اللغات ما يجعل التفرقة بين الجنسين مرتكزة على الفرق بين المذكر والمؤنث وحيادى الجنس،...ولكنها قاعدة غير مطردة، وعدم اطرادها يجعلنا نتساءل هل هى أصيلة فى الذهن البشري؟ فكيف فى ظل هذه الفوضى فى أداء المذكر والمؤنث نبلغ يقينا حول أصل كل هذه الاختلافات التى ورثناها لكى نتمكن من أن نؤدى فى النهاية غرض التفريق بين المذكر والمؤنث؟
جوهر فكرة هؤلاء الفلاسفة فى النظر صوب الجنس كسياق ثقافى متضخم لا بد من محاربة سلبيته (تماما مثلما حدث للميتافيزيقا الثيولوجية منذ عصر النهضة حتى قرن الأنوار). وأصبح أعلام النسوية يدافعون على رؤية ثنائية للعالم، رؤية تعترف بأن الوجود البيولوجى هو وجود «واحد» يقابله وجود «واحد»، وليس وجودا «واحدا» يتبعه «الثاني» أو يقابله «الآخر» الذى يتحدد وجوده من خلال وجود الأول الواحد الأصل. 
هذه الاعتبارات تقود إلى التأمل حول محمولات القضية البيولوجية والثقافية وهو ما يحيلنا على ثنائية المكونى والسياقي.
تحدد الباحثة جوان سكوت ثلاثة مرام لدراسات الجنوسة: تحليل التشكيلات الاجتماعية ووضعها فى مكان الجبرية البيولوجية من أجل تفسير خطابات الاختلاف الجنسي؛ والتوحيد بين الدراسات التى تتناول الرجل والمرأة فى حقل التخصص الواحد؛ وأخيرا العمل على إعادة تشكيل خرائط البرامج والتخصصات العلمية بإضافة الجنوسة كعامل جديد لإضاءة جملة من الموضوعات، (Joan Scott: feminism and history). 
وكل هذا كان محاولة لكسر الهيمنة القديمة للذكر الذى اختار للغة والأعراف وكل ميادين استعمال السلطة مراجع ذكورية هى «الأساس» و«العادي» و«النمطي» و«القاعدة» بحيث تتحول الأنثى، وكل ما ليس ذكرا واضحا أو رجلا عاقلا تاما، إلى مساحة للنقص وخانة للضعف.
وكانت جل أفكار منظرى الميدان تدور حول تحديد أنطولوجى للفكر البشرى واستنطاق لتاريخ علاقات السلطة، من أجل العودة إلى ما من شأنه أن يكون عنصرا مكونيا شهد تكون فكرة ما بسبب تكون الجنسين أو بيولوجيتهما أو كينونتهما الأصلية. وما من شأنه أن يكون سياقا أنتجته سياقات ثقافية أو سياسية حضارية ثم ورثته العصور الموالية على أساس كونه النظام العادى للأشياء.
لذلك عملت «الجنوسة» على هدم خطابات الذكورة التى أقرتها الحضارة الغربية مانحة نفسها سياق الوصف «النسائي» المشين: المركزية القضيبية Phallocentrisme وهو وصف يشمل فى تجلياته حتى المنطق والعدالة والعقل... ذلك أن هذه المفاهيم الأكثر حيادية وشرفا هى أيضا مفاهيم متسلطة - كما تقول جوليا كريستيفا فى مقالها الشهير «زمن النساء» - ويمكن «وصف التفكير العقلانى على أنه يتركز حول الذكورية أو القضيبية، فهو يوصف على أنه ذكرى لأن مصطلحا واحدا وهو الذكورة، مميز أو مفضل على المصطلح الآخر، وهو الأنوثة.. كل مصطلح (يقول دريدا) مهيمن أو مسيطر هو بالفعل يعتمد على تعريف فرعى أو اصطلاح تابع: فهو يكتسب مكانته من ناحيتى المعنى والهيمنة وفقا للعلاقة ومن خلالها، فقد يكون من المستحيل أن نعرف ما المقصود بأن تكون «ذكرا» من دون الرجوع أو الإشارة إلى الفاعلية والعقل، كل مصطلح من هذين المصطلحين يعتمد على التفرقة الطبيعية أو التمييز الأصلى عن الأنثى التى هى السلبية والعاطفة». (مستقبل الفلسفة: أوليفر ليمان وآخرون).
هذه إذن هى القواعد النظرية التى دفعت إلى ظهور تأمل جديد مخالف، بل «ثوري».. لأنه يعيد قراءة كل المفاهيم من زاوية لا قبل لنا بها.. ويعيد – وهذا هو الأهم - كتابة كل شيء انطلاقا من هذه الهوية المهملة.
خلاصة القول
من المثير للانتباه أن الطاقة الجنسية للحياة منسوبة إلى «إيروس»، ولكن اسمه مشتق من اسم وجهه الآخر: الفتنة والشقاق، وهى الإلهة التى اسمها «إيريس»..
كما أن عدد الإلهات الإناث أكبر من عدد ذكور الآلهة، مع ملاحظة أن المهام الأثقل والأفضل فى المطلق موكلة إلى النساء لا الرجال. والمثال الأفضل هو استئثار «أثينا» بمهمتى الحرب والذكاء.. ولعله علينا أن نقف هنا لمراجعة قناعاتنا حول الموقف الذى نردده دوما حول النظرة السلبية للإغريق صوب النساء.
السؤال المركزى المطروح بعد عرضنا هذا هو: ماذا لو كانت كل القناعات التى شكلناها حول المرأة عبر التاريخ خاطئة كقراءتنا لقصة بلزاك التى هى مبنية كخطاب تضمينى لا يقول إلا ما لا يقصده لكى لا يعنى إلا ما لم يقله؟.
ماذا لو كانت المرأة نوعا من البنية التضمينية التلميحية لخطاب البشرية الذى سيكون الرجل بنيته التعيينية التصريحية؟
ولكن هذا موضوع آخر.