الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

القارئ لا يُهْــزَمْ

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كنت وما زلت أبحث عن نقطة ضوء وسط ظلام حالك، تحاصرنى تفاصيله كل يوم! لكن لا شىء يحدث مصادفة، دون سبب؛ لأن إرادتى دومًا يقابلها مشيئة أعلى، أكثر قدرة وحكمة ومعرفة، ربما هذا ما قادنى منذ سنوات إلى حضور «ملتقى القراءة» الأسبوعى، الذى أسسه ويديره دكتور «أحمد زايد» أستاذ علم الاجتماع السياسى وعميد كلية الآداب سابقًا بجامعة القاهرة، متحديًا مجتمعا يشهد انتكاسة دامية فى الفكر والقيم والمفاهيم، مجتمع يُهمل القراءة، يَختفى فيه الكتاب، فالتقط البذور والبراعم والثمار، وأشعل قناديل وسط الظلام!
تقول الدكتورة «سَهير القلماوى» التى أنشأت أول معرض كتاب فى الشرق الأوسط «معرض القاهرة الدولى للكتاب» عام 1969: (كان أول وأهم درس تعلمته هو «ألا أيأس أبدًا»، كيف أتأقلم مع ما قد فُرض علىَّ، وَمِمَّا ليس من اختيارى، أقول لطلابى دائمًا أُشْطُب كلمة «يأس» تمامًا من قاموس حياتك، مهما كان الوضع، ثم العمل المستمر، المُؤمن، والقراءة، ثم القراءة، ثم القراءة، إياكم أن تيأسوا، فالفشل مرحلة من مراحل الوصول إلى النجاح، تقبلوا الفشل بهذا المنطق، وذاك الإحساس، فستنجحون).
يروى المناضل «نيلسون مانديلا» عن كراهية أحد أساتذته «أبيض البشرة» له أثناء دراسته للحقوق: (كان الأستاذ «بيتر» يتناول الغذاء فى مِقصف الجامعة، فاقترب منه «مانديلا» حاملًا طعامه، وجلس بقربه، فقال له الأستاذ «بيتر»: يبدو أنك لا تفهم يا سيد «مانديلا» أن الخنزير والطير لا يجلسون معًا ليأكلوا الطعام! نظر إليه «مانديلا»، وجاوبه بهدوء: لا تقلق أيها الأستاذ، فسأطير بعيدًا عنك! ثم ذهب وجلس على طاولة أخرى، لم يحتمل الأستاذ جواب «مانديلا»، فقرر الانتقام منه فى اليوم التالى).
يواصل (طَرح الأستاذ «بيتر» فى المحاضرة سؤالًا عليه: سيد مانديلا، إذا كنت تمشى فى الطريق، ووجدت صندوقًا، داخله كيسان، الكيس الأول فيه «المال»، والكيس الثانى فيه «الحكمة»، أيهما تختار؟ فأجابه دون تردد: طبعًا سآخذ كيس «المال»، فابتسم الأستاذ، وقال ساخرًا منه: لو كنت مكانك لأخذت كيس «الحكمة»، فأجابه «مانديلا» بكل هدوء: كل واحد يأخذ ما يحتاجه! فاستشاط الأستاذ «بيتر» غضبًا وحقدًا، فكتب على ورقة الامتحان الخاصة به «غبى»، وأعطاها له! فأخذ «مانديلا» ورقة الامتحان، وحاول أن يبقى هادئًا، جالسًا على طاولته، وبعد بضع دقائق وقف، واتجه نحو الأستاذ، وقال له بنبرةٍ مهذبة: أستاذ «بيتر» لقد وقعت الورقة، لكنك لم تضع لى أى علامة!).
صافحتنى تلك اللافِتتان الرائعتان فى شوارع «بيروت» أثناء حضورى لقاءات «العلمانية والمجتمع المدنى» بدعوة من «الشبكة النسوية العربية»: (افتحوا الكتب، تفتح لكم الأبواب والنوافذ المغلقة)، (اقرأ، فالحاضر بين يديك، والمستقبل لا ينتظر)، كما أذهلنى حديث أحد المستشارين الدوليين بمكتب «المفوض السامى لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة» أثناء حضورى لقاءات «آليات القانون الدولى لحقوق الإنسان» بجنيف، حكى لى عن سنوات دراسته فى الجامعة بسويسرا، حينما كان يعمل عاملًا للسويتش فى ذات المبنى، الذى أصبح من كبار مستشاريه؛ لتغطية نفقات دراسته.
تذكرنى عبارة رائدة الصحافة «روزاليوسف»: (قيمة القًلم لا تُقدَّر بِكَم ما يُكتب، لكن بالنور الذى يَسْطع من كلماته، ويشع من حروفه) ببنايات جامعة القاهرة الأثرية القديمة، التى أعشق ردهاتها ونسماتها وأساتذتها؛ ربما لأنها المكان الوحيد الذى يمنحنى الشعور بالأمان والسكينة والتَّحقُّق؛ وربما لأن كل العظماء الذين درسوا بها، من غابت أجسادهم، بقيت أرواحهم عالقة فى كل مكان؛ وربما الحوائط، الحدائق، درجات السُّلم، الزجاج الملون، التابلوهات العتيقة، التاريخ الساكن فى كل ركن، هو ما يشدنى.
ما زلت أبحث عن مكانى الغائب فى هذا العالم، ليس ما تقودنى الحياة لقبوله، واخترت من البداية أن أعيش وأكتب وأتنفس كل ما أؤمن به، خارج قضبان المكرر والمعتاد والمألوف، أتعثر كثيرًا جدًا، وأُخطئ كثيرًا جدًا! لكننى لا أكُف عن المحاولة والفهم ونقد الذات والتعلم من كل أساتذتى، الذين أفخر أننى تتلمذت على يديهم، فهم أصحاب الفضل الحقيقى فى بنائى.
أصبح الرفقاء «القراءة وتحصيل علوم الترجمة واستعادة حلم استكمال دراساتى بأكاديمية الفنون القديم» هى الأروع والأثْرى والأقوى فى مواجهة الهزائم والعواصف والأزمات! بلا شك أصاب الكاتب والفيلسوف «أنيس منصور» حين قال: «القارئ لا يُهزم».