السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أعزائي المحتالين

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الحقيقة هى الضمانة الوحيدة التى تعطى الفن والثقافة المكانة الرفيعة التى حظيت بها منذ أن عرف الإنسان الفن والإبداع، وليس غريبا أن تلصق الحقيقة بالفن والجمال.. «الجمال هو الحقيقة والحقيقة هى الجمال».
وعندما تغيب الحقيقة يحل محلها الزيف ومن ثم يغيب الجمال ويسود القبح وتتسيد المسوخ والمزيفون ويكثر المخادعون.
وكما يقول الكاتب والباحث الفرنسى باسكال بونيفاس فى كتابه «المثقفون المزيفون»، الأخطر من أولئك الذين ينخدعون، هم أولئك الذين يخدعون «المزيفون»، ولكى يتمكنوا على نحو أفضل من إقناع المشاهدين أو المستمعين أو القراء، يلجأون إلى حجج، هم أنفسهم لا يصدقونها، قد يؤمنون بقضية لكنهم يعمدون إلى وسائل غير شريفة للدفاع عنها، إنهم إذن «مزيفون» يصنعون عملة ثقافية مزورة من أجل ضمان انتصارهم فى سوق المعتقدات الراسخة.
هناك من هم أسوأ: «المرتزقة» هؤلاء لا يؤمنون بشيء، سوى أنفسهم، ينتسبون (أو بالأحرى يتظاهرون بالانتساب) إلى قضايا ليس لقناعتهم بصحتها، بل لأنها فى تقديرهم واعدة ولها مردود مهم وتسير فى اتجاه الرياح السائدة.
ومن شدة تكرار الحجج نفسها، قد ينتهى الأمر بالـ«مرتزقة» إلى إقناع أنفسهم بصحة التزامهم. 
الفاصل بين «مزيفون» و«مرتزقة» ليس حادا. فجميعهم يدركون، فى كل الأحوال، مخالفتهم للأمانة الفكرية، وجميعهم لا يعبأون بها، لسببين:
الأول هو أن الغاية تبرر الوسيلة، ويرون أن الجمهور العريض ليس ناضجا بما يكفى لكى يتحسب للطوارئ، وأنه من المناسب توجيهه ولو بوسائل لا تنطبق عليها كثيرا معايير الأمانة.
الثانى هو انطلاقه من دفاعهم عن الطروحات السائدة، وبما أنه لن تتعرض وسائلهم الملامة قط للعقاب، لماذا يربكون أنفسهم بالتدقيق والتمحيص؟ يحتاج قول الحقيقة إلى مجهود إضافى للإثبات، بينما الكذب لا يحتاج، كما أنه لم يعد سببا لفقدان الأهلية، ومن الحماقة عدم الاستفادة من ذلك.
يحكى «بونيفاس» حكاية أوردها جان بوتوريل فى كتابه «أعزائى المحتالين» بأن فرانسوا ميتران تلقى عقب انتخابه رئيسا لفرنسا بوقت قصير، دعوة من مارجريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا آنذاك، لزيارة المملكة المتحدة. فطلب منها ميتران أن يلتقى خلال زيارته بعدد من المثقفين الإنجليز، فأجابه المسئولون عن الأمر بأنهم ربما يجدون له كُتّابا ولكن ليسوا مثقفين.
طلب ميتران يدل على أن المثقفين فى فرنسا يتمتعون بمكانة خاصة يمكن إرجاعها إلى عصر الأنوار وتجذرها الذى بدأ مع قضية «دريفوس».
ويرى أن المثقفين ليسوا رجال معرفة أو علوم وحسب، ولكن مساهمتهم فى قضايا الجدل الذى يخوضه المجتمع والتى توصلهم إلى مرتبة المثقف المرموقة هذه.
يقول «بونيفاس» إن المكانة التى كان يتمتع بها «فولتير» لم تنبع من مؤلفاته فقط، ولكن وقوفه إلى جانب قضايا باسم الفكرة التى كونها عن العدالة وخاصة قضية «كالاس»، ذات الطابع الرمزي، حين اتهم ذلك البروتستانتى زورًا بسبب انتمائه الدينى بقتل ابنه. 
الأمر نفسه بالنسبة لفيكتور هوجو، الذى تعود مكانته أيضا لمواقفه، سواء تعلق الأمر بدفاعه عن الجمهورية أو نضاله ضد حكم الإعدام أو تصديه للقضية الاجتماعية، وهو ما لا يجعل منه كاتبا عظيما وحسب، بل أحد عمالقة البانتيون الفرنسى أو مقبرة العظماء.
من أين وكيف نشأ مصطلح «مثقف»؟ سؤال طرحه «بونيفاس» قائلا: لقد ورثنا مصطلح مثقف نفسه من قضية «دريفوس»، فبعد ثمانية أيام على نشر «إنى أتهم» كتب كليمانصو: «ألا يعتبر اجتماع كل هؤلاء المثقفين القادمين من جميع الجهات، حول فكرة، مؤشرًا؟».
ولمن لا يعرف قضية «دريفوس» فهى القضية التى هددت أجواء فرنسا فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، وهى الفترة التى كانت تشهد باريس حالة مشبعة من البغض لليهود- رغم نفوذهم وسيطرتهم على عالم المال فى فرنسا فى ذلك الوقت- وفى عام 1894، وقع أحد الضباط اليهود بالجيش الفرنسي، يدعى ألفريد دريفوس، تحت طائلة الاتهام بالتخابر لصالح ألمانيا بعد الوشاية به من بعض زملائه من الضباط الكارهين لليهود.
تمت محاكمة «دريفوس» بتهمة الخيانة العظمى بسرعة، وفى أجواء غير نزيهة تعالت الصيحات الحانقة على اليهود لتؤيد المحاكمة، ومن ثم الحكم فى مقابل صيحات أخرى ترفض هذه المحاكمة المبنية على أحقاد وكراهية راسخة سلفا لينقسم الرأى العام إلى قسمين: القسم الأول تزعمه المروجون لمعاداة اليهود من رجال السياسة والأساتذة والأكاديميين الفرنسيين، وقد كانوا يشكلون الأغلبية التى طالبت برأس هذا اليهودى البريء.
القسم الثانى قاده أدباء فرنسا المحترمون منهم إميل زولا، أندريه جيد، ومارسيل بروست، وأصدروا بيانًا، نشر بجريدة «الفجر»، يحتجون فيه على التعتيم على القضية، ويطالبون بإعادة النظر فى الحكم الصادر ضد «دريفوس» وقد وقّعوا البيان باسم جماعة «المثقفين».
لم تهدأ هذه الجماعة من الأدباء والمفكرين الذين صكوا لأول مرة فى التاريخ مصطلح «مثقف» فى إعادة محاكمة «دريفوس»، ومن ثم تبرئته وإعادة الاعتبار له كمواطن وضابط فرنسى شريف، وتمت ترقيته وإعادة محاكمة من وشوا به ودبروا له القضية.