الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

النخبة المصرية.. أحداث 1919 (3)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لماذا اتخذنا من النخبة عنوانًا للسلسلة؟ ذلك لأن النخبة دائمًا هى التى تتصدر الاحداث، فالنخبة السياسية هى التى تكون فى صدارة الأحداث السياسية، فى الوقت الذى لا تصبح فيه هذه النخبة السياسية نخبة دون أن تكون قد وصلت إلى كونها نخبة اجتماعية واقتصادية. فهذه كانت طبيعة الوضع والنظام فى مصر قديمًا وصولًا لعام ١٩١٩ وما سبقه وما تبعه من أحداث، كما أنه من الطبيعى أن تسعى كل نخبة وكل طبقة إلى ما يحقق مصالحها ويقوى وضعها ويؤكد مكانتها الاقتصادية ثم الاجتماعية ووصولًا للسياسية.
فمنذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى أوائل القرن العشرين، كانت قد تحددت عدة عوامل موضوعية فى كل المجالات هى التى أنجبت وأفرزت كل النخبة المصرية حين ذاك، أولى هذه العوامل كان فى نظام حكم الأسرة العلوية منذ محمد على وحتى الخديو توفيق، حيث كان هذا النظام يسيطر على مجمل الأوضاع الاقتصادية والسياسية، وهو ما يعنى إفراز وضع اجتماعى يتوافق مع هذه الأوضاع الاقتصادية والسياسية، فقد اعتمد نظام الأسرة العلوية على خبرة الأجنبى، حيث كان التطور ملموسًا والاتصال بالغرب أكثر اتاحة، فقد اعتمد محمد على على الأجنبى فى تكوين وإنشاء الجيش إلى جانب البعثات إلى الخارج بهدف التعلم وأنشاء المدارس والمعاهد والمصانع، ناهيك عن الحكم ذاته، حتى إن أول رئيس وزراء كان أرمنيًا.
أما المجال الزراعى فقد اعتمد على نظام الالتزام، ذلك النظام الذى كانت فيه الدولة هى المالكة للأراضى، وتقوم بتوزيعها على الملتزم الذى يدفع للدولة ما تطلبه ويقوم هو بتأجير الاراضى للنُخب الاجتماعية والقبلية ذات السطوة التى تعتمد على القوة العددية.
كان هذا فى نظام اجتماعى يعترف بنظام الجوالى والطوائف، فالجوالى هم اتباع الجاليات الأجنبية، وهى التى كانت تُعامل بشكل مميز، حيث كان لها تعامل خاص حتى أصبح لها محاكم خاصة بها بعيدًا وترفعًا عن المصريين. أما نظام الطوائف هذا فهو يخص طوائف الحرفيين، مثل النجارين والحدادين والقماشين.. إلخ، حيث يمثل كل طائفة من هذه الطوائف رئيسًا للطائفة، حتى وصل الامر أن كان يعامل المسيحيين كطائفة يرأسها البطرك رئيس الكنيسة.
هنا كان من الطبيعى لهذا الواقع السياسى والاجتماعى أن يؤثر بشكل مباشر فى تكوين هذه النخب، فوجدنا النخبة الإقطاعية التى تشكلت بعد عام ١٨٩١، حيث كانت المشكلة الاقتصادية والديون قد أحاطت بالحكومة، فتم تمليك الاراضى لكل من يدفع الضرائب للحكومة مقدمًا عن أربعة أعوام، وهنا تحدد شكل الإقطاع الزراعى مع العلم أنه كان هناك عدد غير قليل من الأقباط كانوا يقومون بوظائف حسابية مثل عمل الصيارفة والحسابات حتى ما قبل محمد على، الشيء الذى جعل هؤلاء يدخلون فى زمرة أعمال الالتزام والملتزم، فأصبحوا من ملاك آلاف الأفدنة خاصة فى الصعيد، حيث وجود الأقباط الطبيعى غير الوجه البحرى، ومع وجود الاجنبى صاحب الامتياز خاصةً بعد الاحتلال البريطانى ١٨٨٢ قد ظهرت نخبة تلتحق بهذا الأجنبى المستعمر، وكان أكثر هذه النخبة من الأقباط نظرًا لفكرة مشاركتهم فى الدين المسيحى، تلك المشاركة التى بررت لهم هذا التعاون، والتى اعتمد عليها المستعمر بحجة حماية الأقباط من التعنت والاضطهاد الطائفى، حيث كان الأقباط حين ذاك تطبق عليهم الجزية التى رفعت عام ١٨٥٥ فى عهد الخديو سعيد بن محمد على، واستمرت آثارها النفسية سنوات وعقودًا، وما زالت كما لم يكن لهم حق التجنيد، وهنا وجدنا نخبة قبطية «قلة قليلة من الأقباط وليس الكل» ظهرت بعد تملك الأراضى بنظام الالتزام ومع تعاون هذه النخبة مع المحتل فاحتمت بالكنيسة خاصة بعد تشكيل المجلس الملى عام ١٨٧٤، وهو المجلس الذى كان يضم نخبة الأقباط، مع العلم أن النظام الكنسى كان يوجد فيه ما يسمى بالأراخنة وهم نخبة الأقباط من الأغنياء، الذين يقومون بالصرف على الكنائس ومستلزماتها ومرتبات رجال الدين، وذلك حسب قانون الكنيسة الذى يوكل الخدمة الدينية لرجال الدين ويوكل الجانب المالى والإدارى لطبقة الأراخنة والعلمانيين، أى غير رجال الدين، وظل هذا النظام معمولًا به حتى وصول البابا شنودة إلى رئاسة الكنيسة وبعد تغير الوضع المالى للكنيسة الذى أصبح يعتمد على أموال أقباط المهجر مع أموال المشروعات الاقتصادية وامتلاك الكنائس والأديرة للأراضى الزراعية، أصبحت الكنيسة ليست فى حاجة إلى هؤلاء الأراخنة، فتمت السيطرة على الكنيسة روحيًا وماليًا وإداريًا من الإكليروس، أى رجال الدين.
كانت هذه هى النخبة القبطية حين ذاك، أما النخب المالكة الأخرى فقد اعتمدت على تملكها للأراضى مع لعب الدور السياسى المتاح بهدف الحظوة الاجتماعية وحفاظًا على مصالحها. وفى ظل هذه التركيبة كانت هناك ظلال لتشكيل نخبة أخرى تختلف من حيث المصلحة والتوجهات، فلا شك أن هبة عرابى ومن معه من النخبة الوطنية، فهو لم يكن من النخبة الإقطاعية، لكن انضمامه للجيش كان المدخل الذى هيأه لدوره السياسى الذى أجمع حوله نخبة يمكن أن نطلق عليها نخبة وطنية مرتبطة بالوطن فى مواجهة المحتل، وبالرغم أن هذه النخبة التى ضمت جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده ورشيد رضا، وهم من أصحاب الخلفية الاسلامية التى واجهت المحتل البريطانى لصالح المحتل العثمانى، إلا أننا لا ننكر أن فكر وثقافة هذه النخبة هى التى أنجبت لطفى السيد وطه حسين وجامعة القاهرة وشعار «مصر للمصريين» فى مواجهة شعار «مصر للمسلمين».
هنا وبكل وضوح كانت مصر أمام نخبة قبطية وأخرى مسلمة وثالثة وطنية على أرضية سياسية ثقافية أقرب إلى النخبة التنويرية، لكن هذه التشكيلة النخبوية ولظروف سياسية وطائفية أدخلتنا فى أكبر مواجهة طائفية منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى أوائل القرن العشرين وحتى أحداث ١٩١٩، تلك الهجمة الطائفية التى اعتمدت على الصحف الطائفية، فوجدنا صحفًا إسلامية فى مواجهة صحف قبطية، وتبعية للإنجليز فى مواجهة تبعية لتركيا خاصة أن هذه الأحداث كانت تتويجًا لحادث مقتل بطرس غالى رئيس الوزراء القبطى ١٩١٠. ونكمل فى المقال المقبل بإذن الله.