الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

في الهزل حكم وعبر

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إذا كان أفلاطون قد وضع الحب والحكمة فى ذروة سلم الفضائل والمكارم، وراق لأرسطو تعظيم فضيلة الصدق والصداقة والوسطية على دونها من القيم المحمودة فى ميدان الأخلاق، فإن ابن المقفع قد أكد على أن النبل والشرف والحب والعدالة ينبغى أن تكون فى صدارة خصال كل حاكم فى رعيته وسلوك كل راعٍ فى معيته، فالحياء والعفة والوفاء والصداقة هى من العمد المؤثرة والأسس الرئيسية التى لا تستقيم بدونها الأنفس الخيرة، والعقول المتسامحة والأعمال الناجحة. 
وقد صاغ ابن المقفع هذه القيم فى صور حكم وأمثال وأقوال مأثورة تجرى على ألسنة أبطال حكاياته، فها هى أقواله نسوقها إليك منتزعة من سياقاتها القصصية. وهى تعبر بلا أدنى شك على وجهته الفلسفية وقدرته الفائقة على ستر مضامينها عن عيون الوشاة والحساد أولئك الذين كانوا يضمرون له العداء ويحسدونه على دربته ودراياته وذكائه وعبقريته.
ويقول: «إذا دخل قلب الصديق من صديقه ريبة فليأخذ بالحزم فى التحفظ منه، وليتفقد ذلك فى ملاحظاته وحالاته، فإن كان ما يظن حقًا ظفر بالسلامة، وإن كان باطلًا ظفر بالحزم، ولم يضره ذلك، فالذى يفسده الحلم لا يصلحه إلا العلم، وأن الكريم لا يكون إلا شكورًا غير حقود، تنسية الخلة الواحدة من الإحسان الخلال الكثيرة، من الإساءة، وأن أعجل العقوبات عقوبة الغدر، وإذا سئل الغادر عن العفو، فلم يرحم، ولم يعف، فقد غدر. وإن من اتخذ صديقًا، وقطع إخاءه، وأضاع صداقته، حرم ثمرة إخائه، ويأس من نفع الإخوان والخلان». 
ويبين ابن المقفع أن رذيلة الخيانة إذا لحقت بمواطن الأصدقاء وعلقت بمخادع المحبين وتسللت إلى مجالس الخلان والأوفياء لم تبق على ود أو رحمة أو صفاء بينهم، لذا وضعها فى درك سلم الرذائل، ولم يصف بها سوى الأراذل والأسافل من الناس.
ويقول: «إن الخيانة أشر ما عمله الإنسان، والمكر والخديعة لا يؤديان إلى خير قط، وصاحبهما مغرور أبدًا وحقود دومًا، وما عاد وبال البغى إلا على صاحبه» 
والجدير بالذكر أن ابن المقفع لم يؤسس أقواله المأثورة فى الأخلاق على المتواتر الموروث أو العواطف المفطورة، - كما هو الحال عند معظم الوعاظ وكتاب الحكم والمؤدبه ومصنفى كتب الأخلاق - بل أسسها على العقل الذى استند بدوره إلى السلوك والتجربة والخبرة والممارسة، وها هو يصرح بذلك: «إن العقل هو سبب كل خير ومفتاح كل سعادة، فليس لأحد غنى عن العقل، والعقل مكتسب بالتجارب والأدب، وله غريزة مكنونة فى الإنسان كامنة كالنار فى الحجر لا تظهر ولا يرى ضوءها حتى يقدحها قادح من الناس، فإذا قدحت ظهرت طبيعتها، وكذلك العقل كامن فى الإنسان لا يظهر حتى يظهره الأدب وتقوية التجارب، ومن رزق العقل ومن به عليه وأعين على صدق قريحته حرص بالأدب على طلب سعد جده، وأدرك فى الدنيا أمله، وحاز فى الآخرة ثواب الصالحين» - وقد تأثر معظم شيوخ فرقة المعتزلة بقوله فى العقل - وأن عقل الرجل ليبين فى ثمانى خصال: الأولى الرفق. والثانية أن يعرف الرجل نفسه فيحفظها. والثالثة طاعة الملوك. والتحرى لما يرضيهم. والرابعة معرفة الرجل موضع سره. وكيف ينبغى أن يطلع عليه صديقه. والخامسة أن يكون على أبواب الملوك ملق اللسان - غير مداهنًا أو منافقًا - والسادسة أن يكون لسره وسر غيره حافظًا أيضًا، والسابعة أن يكون على لسانه قادرًا، فلا يتكلم إلا بما استوثق مصدره وأمن تبعته، والثامنة إن كان بالمحفل لا يتكلم إلا بما يسأل عنه، فمن اجتمعت فيه هذه الخصال كان هو الداعى إلى الخير نفسه». 
ويضيف «ينبغى للعاقل أن يكون لهواه متهمًا، ولا يقبل من كل أحد حديثًا، ولا يتمادى فى الخطأ إذا ظهر له خطؤه ولا يقدم على أمر حتى يتبين له الصواب، وتتضح له الحقيقة، ولا يكون كالرجل الذى يحيد عن الطريق، فيستمر على الضلال، فلا يزداد فى السير إلا جهدًا، وعن القصد إلا بعدًا، كالرجل الذى تقذت عينه فلا يزال يحكها، وربما كان هذا الحك سببًا لذهابها فيصبح أعمى، ويجب على العاقل أن يصدق بالقضاء والقدر، ويأخذ بالحزم، ويحب للناس ما يحبه لنفسه، فلا يلتمس صلاح نفسه بفساد غيره». 
ولا غروة فى أن ابن المقفع قد استفاد من فلسفة السابقين وعلى رأسهم أفلاطون وأرسطو وأفلوطين، وتأثر كذلك بالمأثورات التليدة سوء فى التراث العربى أو التراث الفارسي، غير أنه نجح إلى حد كبير فى التأليف بين سائر اقتباساته ووفق بين المعقول والمنقول، ويتضح ذلك فى حديثه عن علاقة الأخلاق بالدين، وقد أثر بدوره فى جل الفلاسفة اللاحقين عليه بداية من الفارابى وإخوان الصفا وأبى حيان التوحيدى إلى ابن حزم والغزالي. 
فعن علاقة القيم بالنصوص المقدسة والمقاصد الإلهية يحدثنا ابن المقفع عن تجربته خلال بناء دستوره الأخلاقى فيروى أنه عاهد ذاته وألزمها بأنه لا يقبل شيئاً أو يصدقه إلا بعد عرضه على العقل فيجيزه ويستحسنه - أو يقصيه ويبعده بعد تحليل وتركيب وفحص للبراهين ونقد للأدلة وقد سبق الغزالى إلى ذلك - فراح يقلب أقوال الكهنة والرهبان، فلم يجد عندهم ضالته، فقرر أن يبحث بنفسه عن ذلك الرابط الذى يصل بين جميع الأديان، فوجد أنه البر والمعروف والإحسان وكف الأذى عن الناس، والتعفف عن كل فعل خالطه الهوى، وكل قول مسه القبح، وكل موضع سكنه الفحش، ويقول: «رأيت ألا أتعرض لما أتخوف منه حدوث مكروه، وإن اقتصر على عمل تشهد النفس أنه يوافق كل الأديان، فكففت يدى عن القتل والضرب، وطرحت نفسى عن المكروه والغضب والسرقة والخيانة والكذب والبهتان والغيبة، واضمرت فى نفسى ألا أبغى على أحد، ولا أكذب البعث والقيامة والثواب والعقاب، وأخرجت الأشرار من قلبي، واحتلت الجلوس مع الأخيار بجهدي، فرأيت أن الصلاح ليس كمثله صاحب ولا قرين، ووجدت مكسبه إذا وفق الله وأعان يسيرًا، ووجدته يدل على الخير ويشيد بالنصح، فعل الصديق بالصديق، ووجدته لا ينقص رغم الإنفاق منه، بل يزداد جمالًا وحسنًا، ولا خوف عليه من السلطان أن يغضبه، ولا من الماء أن يغرقه، ولا من النار أن تحرقه». 
وللحديث بقية عن مأثورات وتجارب ابن المقفع الأخلاقية.