الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أفكار حاكمة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى كل مجتمع توجد «أفكار حاكمة»، هى مجموعة مترابطة ومتماسكة من المعتقدات، التى كانت فى الأصل فكرة أو أفكارًا يرددها فرد أو مجموعة معينة من الأفراد، ثم ترسخت فى بنية العقل الجمعي، وصارت منارة أو بوصلة تضبط مسار حياة الناس فى كل المناحي، وتضبط سلوكهم على نحو دون غيره، لدرجة أن من يأبى الخضوع لهذه «الأفكار الحاكمة» ويحاول فحصها ونقدها، يُنْظَر إليه من جانب بقية أفراد المجتمع بوصفه غريبًا وشاذًا، وهى ذات التهمة التى وُصِفَ بها المؤسس الأول لهذه الأفكار الحاكمة التى تحكمنا الآن، حين خرج مناهضًا للأفكار التى كانت تحكم عصره ومجتمعه. ويقاس تخلف الشعوب والمجتمعات بخضوعها قرونًا طويلة «لأفكار حاكمة» معينة دون محاولة تغييرها وتبديلها - أو حتى تطويرها - بأفكار حاكمة أخرى تتوافق مع ظروف العباد والبلاد، وتتماشى فى الآن نفسه مع طبيعة العصر.
نحن نعلم أنه لابد من وجود «أفكار حاكمة»، لأن وجودها ضرورى كوجود الدفة للسفينة، فليس مقبولًا أن يتخبط المجتمع فى كل اتجاه، أو يسير دون وجهة محددة، وليس مقبولًا بالقدر نفسه أن يهرول المجتمع مرتدًا إلى الوراء ظنًّا بأن هذا هو السبيل الوحيد للرقى والتقدم. لكن من الضرورى أيضًا ترك مساحات للإبداع والابتكار، مجالات تتحرك خلالها إرادات جديدة ترفض ما هو قائم وتنشئ جديدًا متوافقًا مع طبيعة العصر ومتماشيًا معها. أما التمسك بما هو قائم، والسير وفقًا لما هو سائد، وتقديس الموروث، لمجرد كونه موروثًا، فهذا هو الجمود بعينه المؤدى حتمًا إلى التخلف.
عدد قليل من الأفكار تمثل ضوابط أساسية تحكم سلوك وتصرفات أفراد كل مجتمع، وتتحدد وفقًا لهذه الأفكار السمات العامة للشخصية فى أى مجتمع من المجتمعات، وتختلف هذه الأفكار من مجتمع إلى آخر، وبالتالى تختلف السمات الشخصية للأفراد وفقًا لاختلاف المجتمعات. فالفكرة السائدة فى مجتمع ما عن «الجنس» أو «العلاقة بين الرجل والمرأة»، هى التى تحدّد سلوك الأفراد فيما يتعلق بالمعاملات بين الرجال والنساء فى هذا المجتمع أو ذاك، إذا كان المجتمع مغلقًا كالمجتمعات العربية والشرقية عمومًا، سنجد الفكرة الحاكمة عن «الجنس» أو «العلاقة بين الرجل والمرأة»، إنها علاقة محرمة ولا يجوز إقامة أية صلة بين الجنسين إلا فى إطار شرعى (قرابة من الدرجة الأولى أو زواج)، هذه فكرة حاكمة تحكم سلوك الأفراد وتضبط تصرفاتهم.
وتنشأ الأفكار الحاكمة منذ الصغر، ويتم غرسها فى أذهاننا منذ الطفولة، فالطفل الصغير - سواء ذكر أو أنثى - الذى لا يتجاوز الخامسة من عمره، قد يفاجأ أثناء انهماكه باللعب بصوت رنين جرس الباب، وحين ذهبت أخته الجامعية لفتح الباب، كانت الأم عائدة من العمل، شاهد الطفل وجه أمه مكفهرًّا، ويطل الغضب والحنق من عينيها، وحين سألتها ابنتها الكبرى:
- ماذا بكِ يا أمي؟!
صاحت الأم بصوت مرتفع فيه حدة:
- سوسن ابنة جارتنا.. البنت قليلة الأدب أنا رأيتها منذ قليل تسير مع شاب غريب تتأبط ذراعه!!.. دى لو بنتى كنت دبحتها.... دى لو بنتى كنت شربت من دمها.. 
الطفل الصغير - سواء ذكر أو أنثى - الذى لا يتجاوز عمره الخامسة يتابع هذا المشهد بوجل ورهبة، وتبدأ تتكون فى ذهنه ووجدانه «فكرة حاكمة» عن «الجنس» أو «العلاقة بين الرجل والمرأة».
فى حين أن طفلًا آخر فى مجتمع آخر، تُغْرَس فى ذهنه ووجدانه «فكرة حاكمة» مختلفة عن «الجنس» أو «العلاقة بين الرجل والمرأة». إذ نجد طفلًا صغيرًا - سواء ذكر أو أنثى - لا يتجاوز الخامسة من عمره، يعيش هذه المرة فى دولة غربية (إنجلترا، أو ألمانيا أو فرنسا، أو الولايات المتحدة الأمريكية)، هذا الطفل تدخل شقيقته الكبرى المنزل تتأبط ذراع صديقها، ثم تدلف معه إلى غرفتها، وتغلق الباب عليهما، كل هذه المشاهد تتم على مرأى ومسمع من الأب والأم دون أن يحركا ساكنًا، بل يتصرفان وكأن شيئًا لم يكن. لا شك أن فكرة هذا الطفل الغربى «الحاكمة» عن «الجنس» و«العلاقة بين الرجل والمرأة» ستكون مختلفة كل الاختلاف عن فكرة الطفل الشرقي.
مثل هذه الفكرة «الحاكمة عن الجنس» و«علاقة الرجل بالمرأة» تفسر كثيرًا من سلوك الرجل وتصرفاته، ففى مجتمع مغلق كصعيد مصر مثلًا قد يُقْدِم شابٌ على ذبح شقيقته أو زوجته لمجرد انتشار شائعة (لاحظ أنها شائعة، وليست واقعة حقيقية) فى القرية أو البلدة إنها على علاقة محرمة برجل غريب. فى حين أن شابًا آخر يماثل الشاب الصعيدى فى العمر، لكنه يعيش فى دولة أوروبية، وله شقيقة تماثل فى عمرها شقيقة الصعيدى التى ماتت مذبوحة، الشاب الأوروبى اكتشف - للأسف الشديد - أن شقيقته رغم بلوغها السابعة عشرة من عمرها ليس لها صديق Boyfriend. من المؤكد أن الشاب الأوروبى - وسائر العائلة - سيصابون بالفزع بسبب الحالة التى عليها شقيقته، وليس مستبعدًا أن يبادروا بعرضها على معالج نفسى لفحص حالتها!!
نحن هنا لسنا بصدد تقييم أى هذه الأفكار أفضل، وأيها أسوأ، ولكننا نعرض الكيفية التى يتم بها غرس الأفكار الحاكمة فى الأذهان، وطريقة توارثها عبر الأجيال.
يتضح مما سبق أن «الأفكار الحاكمة» تختلف باختلاف المجتمعات، إنها وليدة ظروف تاريخية واجتماعية وثقافية معينة، ومن ثمَّ فهى ليست مقدسة؛ وإن كان يتم الترويج لها فى معظم الأحيان على أنها كذلك!! كما يتكشف مدى هيمنة هذه الأفكار وتحكمها فى سلوك أفراد المجتمع، وتوجيههم وجهة معينة دون غيرها. ومن الضرورى البحث عن «الأفكار الحاكمة» فى مجتمعاتنا، لإعادة فحصها ونقدها، للإبقاء على ما هو صحيح منها، واستبعاد ما هو فاسد. يجب ألا نتمسك بأفكار عقيمة ظنًّا منا أنها سوف تُسهم يومًا فى تقدمنا ورقينا، لأننا فى هذه الحالة سوف نقع فى الخطأ نفسه الذى وقعت فيه تلك الدجاجة التى رقدت على بيض مسلوق ظنًّا منها أنه سوف يفقس يومًا!!