الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

يمكن مات!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
حلّقت الحوّامة، وسط سلاسل جبلية قاسية، من العاصمة الألبانية «تيرانا»، إلى مدينة «كوكيس»، على الحدود مع «صربيا»، إبان حرب كوسوفا، وأنا على متنها، أغمض عينى جزعًا، كلما اقتربت إلى قمة ثلجية، أو انحدرت حتى تكاد تصطدم بالسفوح.
كنت فى طريقي، لتأدية مهمة صحفية، اقتضت أن أمكث فى معسكر للاجئى كوسوفا، اثنين وعشرين يومًا، حيث شاطرتهم أحلام العودة إلى الوطن، وأكلت «عيشهم وملحهم»، وأحببتهم وأحبوني.
ما إن دلفت إلى خيمتي، خائر القوى، بعد رحلة سبع ساعات على طائرة شحن من أبوظبى إلى تيرانا، مرورًا بأثينا، شرعت أغيّر ملابسي، حتى رأيته إزائي.
مديد القامة، خصلات شعره الفضى الناعم، تنسدل على جبينه، وعلى عينيه نظارة ثقيلة، تستقر على أُرنبةِ أنف هائل، كأنه برج حمام ينتأ من وجهه، أسنانه تلوح خلف شفتين غليظتين، كباقى الوشم فى ظاهر اليد، بين أصابعه المرتعشة سيجارة كثيفة الدخان.
عرّف نفسه بلكنة أهل العراق، المفعمة شجنًا: «مهدى خوجة، ستحتاجني، كل الصحفيين يعتمدون عليّ لترجمة الألبانية إلى العربية، لقد درست الشريعة فى جامعة بغداد، لكنى لا أؤدى عملا بالمجان... ما اسمك؟»
«اسمى محمد، وبوسعك أن تنادينى مصطفى، سأحتاج خدماتك قطعًا، فمعرفتى بالألبانية، ليست أفضل من معرفتك بالصينية»، ضحك: «أنت مصري... كم تحبون النكتة؟ نم بعض وقت، لعلك متعب، سنلتقى ليلًا».
فى نحو الثامنة، كان البرد كشّر عن أنيابه، وأنا كعادتى لم أضع فى حقائبى ملابس ثقيلة، دخل «مهدي»، بسيجارته ونظارته وقامته المديدة، خيمتي: «مساء الفل يا مصطفى يا عسل»... ثم جلس إلى طاولة جعلتها مكتبًا، فصبَّ دون استئذان، قدح قهوة ساخنًا، وطفق يطرح الأسئلة: «ما انطباعاتك عن المخيم؟ كيف رأيت الناس فيه؟ هل لفت انتباهك شيء ما؟».
-يبدون طيبين، تعرفت إلى طفلين رائعين، اسمهما: «دافير وداشنور»، عرضا أن يحرسا خيمتي، وقد وافقت، عندما سألتهما عن اسميهما، نطقتُ داشنور: «بى شور»، فقهقها حتى كادا يسقطان أرضًا، ثم فهمت من «دافير» إن ما نطقته يعنى بالألبانية التبوّل، ولد رائع، يقرأ القرآن تجويدًا بصوت جميل، ويتحدث الإنجليزية بدرجة تسمح بالتفاهم معه».
-هل لى أن أحظى بسيجارة من علبتك؟
-بوسعك أخذ علبة كاملة، معى مخزون يكفينى وزيادة.
عبّ التبغ بتلذذ، لقد كان مدخنة تمشى على قدميها، سألني: ما اسم هذه السيجارة؟ قلت: «جُلواز.. فرنسية، دخنتها مع حملة مقاطعة المنتجات الأمريكية».
هل تكره الولايات المتحدة؟ سألني، جاوبت: إن أحدًا لا يحب أمريكا، رد: «لقد دمر الناتو بلادي، فى صراع عبثى وقوده الأبرياء».
غيّرت دفة الحديث، سألته عمن يحب من المطربين العرب، قال: أم كلثوم، وفيروز، وعبدالحليم، والغزالي، لكنى متيم بفريد الأطرش، ثم تنهد: «لأنه حب من دون أمل»، وسكنت قسماته ملامح حزن عميق.
ومضت اللقاءات تجمعنى بـ«مهدى خوجة»، صحبنى لدى إجراء حوار مع «هاشم تاتشي» رئيس جيش تحرير كوسوفا، الذى زار المخيم، فألقى خطبة حماسية، تاجر خلالها بمشاعر اللاجئين، ممن تحلقوا حوله يهتفون بحياته، وهو مزهو كطاووس... إن السياسيين مخادعون، يبيعون البسطاء أوهامًا، وترجم لى الكثير مما كان يقوله اللاجئون فى المعسكر، وجاء معى لدى زيارتى معسكر للأمم المتحدة على الحدود، حيث يجرى استقبال النازحين، قبل توزيعهم على المعسكرات الأبعد.
وكان ذاك اليوم واحدًا من أصعب الأيام فى حياتي، حيث استرعى انتباهى مشهد لن أنساه ما حييت.
رأيت شابًا فى نهاية العشرينات، يجلس القرفصاء إزاء قدميّ عجوز فى نحو الستين، يبوسهما، وهو يبكي، والعجوز بدوره ينتحب.
كان منطقيًا أن أدنو إليهما، فخلف المشهد، ثمة قصة صحفية، إن الصحافة تقتضى أن تكون جامد القلب.
سمعت الحكاية، المأساة، الألم الذى راودنى فى كوابيسى سنينًا، الشاب يحكي، والعجوز يبكي، ويربت على رأسه، و«مهدي» يترجم.
«على الحدود، أمسك بنا جنود الصرب، كانوا سكارى، فأرادوا أن يتسلوا، صوّب أحدهم فوهة بندقيته إلى رأس أبي، ثم أمرنى بعينين جامدتين: إما أن تصفعه، وإما أن نقتله على الفور، توسلت، كيف أجرؤ؟ شدّ أجزاء السلاح، شبت نيران الخوف فى دمي، صفعته صفعة هينة، أمرنى بفظاظة: اصفعه بقوة، وإلا... الخوف على حياته أفقدنى عقلي، أخذت أصفعه كالمجنون، والصرب يضحكون، أضربه وأنا أصرخ: سامحنى يا أبي، إننى ممتلئ حتى الثمالة بالحقد، ومكسور الوجدان فى آن».
فرغ من روايته، فإذا به يرتمى فى حضن أبيه، والأخير يتوسل إليه أن يهوّن على نفسه، أما أنا فقد شرعت أنشج، بكيت حتى سقطت على الأرض، و«مهدي» بدوره يحاول التخفيف عني: «هذه هى الحرب يا مصطفى».
فى المساء، زارنى «مهدى خوجة»، ليمضى معى نحو ساعة، غير أنه لم يكن صاخبًا كدأبه، كان كقنديل شاحب، استوضحته الأمر، فقال: «اليوم عيد ميلاد ابنى محمد»، بادرته: «لكنى لم أرّ لك ابنا إلا عزت، وهو يزور خيمتى باستمرار مع الأطفال الذين يتقاطرون عليها»، أجاب: «محمد ابنى الأكبر، إنه ملتحق بجيش تحرير كوسوفا، لم أتلق منه رسالة منذ شهر»، ثم أجهش فى البكاء: «يمكن مات.. هذه هى الحرب يا مصطفى».