الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

النظريات التي تفسر الحقيقة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم يكن مفهوم «الحقيقة» حتى نهاية القرن التاسع عشر، موضوعًا لدراسة متخصصة، بكل ما فى الكلمة من معنى، لكن الأفكار التى جاءت بها الفلسفة المثالية آنذاك هى التى أثارت الاهتمام بمشكلة «الحقيقة». وبينما كان الفلاسفة السابقون فى هذه الفترة يعتقدون أن «الحقيقة» مطابقة للواقع، أصبح هذا التعريف يمثل معنى شائعًا بين النظـريات التى تفسر «الحقيقة»، على الرغم من أن معنى «الحقيقة» يختلف باختلاف هذه النظريات. فضلًا عن هـذا، أصبح هناك تأكيد من بعض الفلاسفة على عدم وجود مشكلة منفصلة للحقيقة، وتأكيد من البعض الآخـر على أن حقيقتها حقيقة بدهية. والنظريات التى تفسر الحقيقة - التى أصبحت شائعة فى العصر الحديث – تتمثل فى «نظريـة التطابق» و«نظرية الترابط» و«النظرية البرجماتية»، وتتفق هذه النظريات فى افتراض أن للحقيقة طبيعة مشتركة، أى أنها شيء واحد والشيء نفسه بالنسبة للموضوعات التى تنطبق عليها. وبناء على ذلك، تم وضع هذه النظريات من أجل السيطرة على هذه الطبيعة؛ ولهذا افترضت شروطًا ضرورية وكافية لصدق اللغة الحاملة للحقيقة، أعنى لصدق القضية والجملة والعبارة. وربما تشير هذه الشروط إلى معنى «ما هو حقيقي»، وربما تعبر عن علاقة التضايف الضرورية بين الحقيقة ومجالات المعرفة الخاصة.
وقد توصل أصحاب هذه النظريات إلى هذه الفكرة من خلال اتجاهات نظرية مختلفة تمامًا. فالاتجاه الذى يبدأ منه أصحاب «نظرية التطابق»، هو دور «الحقيقة» فى تفسير السلوك، بمعنى تفسير ما يحدث من خلال مطابقته للواقع. ويبدأ أصحاب «نظرية الترابط» من جعل «الحقيقة» ممكنة المعرفة. أما الاتجاه الذى يبدأ منه أصحاب «النظرية البرجماتية» فهو تفسير الحقيقة من خلال فائدة الاعتقاد الحقيقي. وهكذا يمكن فحص هذه النظريات فى معالجتها لمشكلة الحقيقة من خلال أن كل نظرية تبدأ من فكرة بدهية فريـدة حول طبيعة الحقيقة كما تتصورها. فـ «نظرية التطابق» تبدأ بفكرة أن القضية تكون حقيقية عندما توجد واقعة تتطابق معها، بمعنى أنها تعبر عن حالة الواقعة الآن. أما الفكرة البدهية فيما يتعلق بـ «نظرية الترابط»، هى أن الحقيقة ارتباط نسقى أكثر من أن تكون اتساقًا منطقيًا. فالقضية تكون حقيقية إذا كانت تشكل كلًا مترابطًا نسقيًا يستلزم كل عنصر فيه العنصر الآخر. ومن ثم فالحقيقة - فى ضوء هذه النظرية – هى الخاصية المميزة للمطلق. وأخيرًا، فإن الفكرة البدهية بالنسبة لـ «النظرية البرجماتية» هى أن الحقيقة تتصل أساسًا بالاعتقاد النافع والمفيد. فى الواقع، إن الحقيقة التى يجب أن نهتم بالبحث عنها هى تلك التى تنطبق على أى شيء قد يتصف - بطريقة أو بأخرى - بأنه حقيقى أو غير حقيقى سواء أكان ذلك فى معرفتنا بالعالم أو الإنسان أو حتى معرفتنا بالمطلق. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن المعرفة والحقيقة ترتبطان فى علاقة محكمة. فمعرفتنا بالأشياء هى نوع من العلاقة بين أنفسنا والأشياء المعروفة، لكن على النقيض لا تتضمن الحقيقة هذه العلاقة الوثيقة بين أنفسنا والأشياء الأخرى. فى هذه النقطة يكمن مصدر الخلاف بين «النظريات التى تفسر الحقيقة». فتبرهن كل من «نظرية الترابط» و«النظرية البرجماتية» على أن «الحقيقة» يجب أن تتضمن علاقة بين أنفسنا والأشياء الأخرى، على حين تنكر «نظرية التطابق» أن ارتباط المعرفة والحقيقة عامل أساسى فى علاقتنا بالأشياء. وتبدو العلاقة بين المعرفة والحقيقة واضحة من خلال الدور الذى تلعبه القضايا والمفاهيم الشائعة فى الحياة اليومية فى تطور نظرية المعرفة. ومع أن إشكاليات هذه النظرية قد أصبحت أكثر تعقيدًا بسبب الاكتشافات التى حدثت فى الفيزياء وعلم النفس وعلم وظائف الأعضاء. فمن الملاحظ أن هذه الإشكاليات قد ظهرت – فى المقام الأول – عن القضايا والمفاهيم الشائعة فى الحياة اليومية. فإننا نتحدث عما نشاهده ونسمعه ونتذكره ونعتقد به ونعرفه عن الحقيقة والزيف حديثًا جليًا ليس فيه غموض أو لبس. فعلى سبيل المثال، عندما نقول إن هذه اللوحة رائعة الجمال، أو أننا نرى الآن الأشجار والأعشاب؛ ونتذكر أننا كنا نمشى على الشاطئ الشهر الماضى... إلخ، كل هذه العبارات أو القضايا غير مهمة ولا تصبح مفيدة إلا عندما نركز انتباهنا عليها ونتساءل: عما تعنيه؟ حينئذ نواجه صعوبات كثيرة. فمن المدهش والمفارق اكتشاف أن هذه القضايا ونظائرها فى اللغة التى يمكن استخدامها فى الخطاب العادى ليست صعبة التوضيح فحسب، بل عندما نحاول الحصول على أفكارنا الواضحة عنها تؤدى بنا إلى شبكة من الإشكاليات المتصلة والمتداخلة. فمشكلة واحدة منها سرعان ما تؤدى إلى ظهور مشكلة أخرى، حتى إذا تساءلنا – مثلًا – ماذا نعنى عندما نعتقد بقضية معينة كقضية «ب»؟ نكتشف أنه علينا أن نسأل السؤال نفسه عن معانى كلمات: «معرفة» و«حقيقى» و«زائف»، وكلمات أخرى عدة. كل هذه المفاهيم مرتبطة معًا فى نسيج معقد ومتشعب، بحيث يبدو أن تحليل كل منها يفترض تحليلها جميعًا.
وهكذا، ليست الحقيقة والبحث عنها أمرًا مقصورًا على الفلاسفة وحدهم، وإنما تمثل موضع اهتمام كل من لديه رغبة فى المعرفة ويحاول اعتناق كل ما هو صادق من تأكيدات ومزاعم ونظريات. فمن المؤكد، أن الاهتمام بالحقيقة يستلزم الاهتمام بحقيقة الأشياء التى تقال، فربما لا يهتم الفرد بالحقيقة فى معظم الأحيان، وفى هذه الحالة لا يمكنه فهم الأشياء التى تقال. وربما يعتقد أن بعض هذه الأشياء حقيقى وبعضها غير حقيقي، وكثير منها لا هو حقيقى ولا هو غير حقيقي. ولذلك لا بد من التساؤل عما هو الأمر الذى يجعل الفرد يعتقد أن الأشياء حقيقية أو غير حقيقية.