الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

شعرية الجغرافيا.. فذلكة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يواجهنا نص من أدب الرحلة، أو مما من المفروض أن يكون أدبًا جغرافيًا؛ حسب المصطلح السائد على أيامنا، كنص هيرودوت فى وصف النساء السيثيات يكتب فيه بأنهن: «يفضلن فرم أشجار السرو والأرز والبخور على حجر خشن، لخلطها فى الماء وصنع نوع من المعجون يضعنه على الجسم والوجه. يكتسبن نتيجة لذلك رائحة طيبة تنبعث منهم بشكل رائع، وعندما يزلن هذه العجينة فى اليوم التالي، تكون لديهن بشرة نظيفة وجديدة وعطرة». فنتساءل - مع الفيلسوف ميشال أونفري- عن الإمكانيات الواسعة للتطابق بين الشعرى والجغرافى، أو بين التعبير الشعرى والمتابة الرحلية. والسؤال المركزى الموروث حول جوهر السرد الرحلي، هو ذلك السؤال حول طبيعة التجربة الرحلية؛ أى السؤال: لماذا نسافر وما فائدة هذه السرود؟
وتبقى ترسيمة ألدوس هكسلى قائمة طبعا، الترسيمة التى يعبر عنها فى مقولته الجميلة: «السياحة هى اكتشاف أن الجميع مخطئون فى رأيهم عن الآخرين».
تنويعات
لقد كان الجغرافيون القدامى رحالة، وكان الرحالة القدامى يجوبون الأرض لكى يطلعوا على الحياة، ومنهم من ينتهى به الأمر جغرافيًا، ومنهم من يقف على حواف الرحلة فى مكان وسط بين الأديب والدبلوماسى وعالم الاجتماع الحذق. ننظر اليوم إلى حرفة الجغرافى فنجده شبيهًا بموظف حكومى يحلل المعطيات فى مكتب مغلق ما، عامل منسحب من العالم منقطع عن الناس ومهتم بالمعطيات والإحصاءات. والحصيلة هى أن المهام المنوطة بالجغرافيا قد تحولت إلى مهام استعمارية فى الغالب. السؤال المطروح كالتالي: ما الذى حدث لنزعة ارتياد الآفاق وللولع بمعرفة ما يقف خلفها؟ هل تشبع الإنسان من معرفة العالم، أم أن معرفته لم تعد بريئة؟
حاجات المقال السريع تغرينا بالقول إن الإنسان قد انتقل بسرعة من استكشاف العالم أولًا لاتقاء شروره، وثانيا انبهارا ومعرفة، إلى مرحلة الرغبة فى السيطرة على العالم. وهو يبدو مسارًا منطقيًا. فبعد ذهاب دهشة الاستكشافات التى تظهر جيدًا فى أدبيات عصر النهضة، وبعد نشأة النواة الأولى للاستكشاف العنيف مع الإسكندر المقدونى ثم النواة الثانية مع أوروبا المسيحية التى انتقلت بأعداد كبيرة إلى الإلدورادو الهندى فى أمريكا، أصبحت اللعبة ممكنة جدًا، فقد ذهب سحر المعرفة لتأتى مرارة المعرفة الاستراتيجية ذات البعد المهيمن. 
السؤال الذى يشغلنا من زاويتنا المحددة قد يكون: ما الذى يفعله الفيلسوف فى الجغرافيا أو يفعله بها؟
عندما قدم جيل دولوز (رفقة شريكه الفلسفى فيليكس غواطاري) مفهومه لرسم الخرائط فى الكتيب الشهير «الجذمور» Rhizome، لم يستهدف مباشرة الممارسة التى يشار إليها عادةً بهذا المصطلح. بل إنه قد ركز، بدلا من ذلك، على تطوير طريقة جديدة للنظر فى ممارساتنا الحياتية والفكرية. لا يعتبر رسم الخرائط مجرد تقنية علمية لتمثيل مساحة موجودة مسبقًا بشكل تخطيطى عن طريق رموز، وإسقاطات ونسخ رمزي. بل هو -فى المقام الأول- نشاط حيوي، يتضمن صلات بكل عملية طبيعية أو ثقافية أو فردية أو جماعية. هو طريقة لتصور نظام معرفة ضمنى يسير هذه العمليات. رسم الخرائط يتضمن أيضا إفشاء لأسرار إنسانية كثيرة وعميقة حول مخرَجات الوجود الحيوى أو التشكيل النفسانى أو طبائع الجماعات، وكذا حول أى خلق فنى أو التزام سياسي.
وربما يكون هذا المعنى متضمنًا فيما عبر عنه بطريقة بيداغوجية بسيطة صموئيل جونسون، حينما قال: «كل سفر له مزاياه؛ فإن ذهب المسافر إلى أجمل من بلده سيتعلم كيف يطورها، وإن قاده الحظ إلى أسوأ منها فربما يتعلم كيف يحبها». سيقول دولوز تعليقا على المسافة الزمنية بين الطريقتين فى التعبير: إنها خرائط تم تخطيطها بقدر نشاط الإنسان الخاص؛ فالإنسان يرسم خرائطه الشخصية فى إطار الوعى الجغرافى الداخلي. فى إطار ما تسمح به وظائفه من الوعى الجغرافى بالتجارب. أما النقاط والخطوط والمسارات التى تتشكل منها الخرائط، فهى مسارات تجارب الإنسان ونشاطاته وبرامجه وتعرجاته وتحولاته وعواقب أفعاله ومجازفاته الوجودية، وتمثيلاته الإبداعية، إذ لا يفلت عمل الفكر والكتابة من هذا التحديد العام للممارسة التى تجعل أحيانًا المشاهدة البريئة للمسافر تعيد قلب نظام الرؤى كليًا.
إن تأريخًا سريعًا للخرائط يجعلنا نقف عند عسر تمثيل سرعة الحياة مثلا، فهل تصلح خرائط كخطط المقريزى لتصوير العالم الذى رآه شارل جوزف مينارد فى القرن ١٩، علمًا أن الأول مؤرخ يعنون كتابه «المواعظ والاعتبار فى ذكر الخطط والآثار»، فى إشارة واضحة إلى فعلى التأمل والتعلم، فى حين أن مينارد هو المهندس الذى كان يؤلف فى الجغرافيا وعلم الخرائط لأهداف صناعية وتجارية وهندسية. الواقع هو أنه حتى القرن التاسع عشر وظهور السكك الحديدية، والتى ستغير سرعات التنقل، فتغير بذلك المسافات، لم يكن ممكنًا أن نرى مثل هذه الخرائط الحديثة تظهر إلى الوجود. خرائط مينارد تحف حقيقية فى هذا المجال. ففيها تمثيل الخسائر البشرية خلال حملات نابليون، ونرى فيها حركة الجيوش كتدفق متغير الأحوال. يجلب هذا الرجل رسم الخرائط الغربية إلى نطاق يتجاوز مجرد استنساخ الأسطح. إنه يمثل مشكلة تمثيل التدفقات البشرية، والتى يصعب عادة التعامل معها بطريقة مجدية... فالخرائط أبنية ثابتة تمثل وقائع حية متحركة. فهناك صعوبة بصرية فى رؤية الأسطح بتفاصيلها، ثم إن هناك العادة الغربية المخاتلة التى تجعلنا نعتبر أن الخطوط موضوعة على الأسطح بشكل ثابت... عادة تنبه لها الرحالة أكثر من الجغرافيين، وفى ذلك يقول الفيلسوف رالف والدو إمرسون: «إننا نسافر حول العالم لنعثر على الجمال، لكننا إن لم نحمله بداخلنا لن نجده». 
خلاصة القول
تعانى الخرائط مما يعانى منه الشعر فى النهاية الأمر، ويمكن لهايدجر فى نهاية المطاف أن يفسر الإشكالية التى رصدها ميشال أونفرى، فيما يتعلق بهيرودوت؛ فكرة الجوار الغريب بين «الشعري» و«الجغرافى»، إذ يقول: «الشعر يهب الأسماء التى تخلق الكينونة وجوهر الأشياء»... كذلك السرديات الجغرافية تعمل على رصد وقائع عقلية من خلال رصدها للمواقع الفعلية، هنالك فكرة نقترحها هنا قد تكون طريقًا جيدًا للباحثين فى فلسفة السرد الجغرافى، تلك هى عمل هذه النصوص على التربية الديمقراطية للعالم من خلال تسليط عين غير انتقائية وغير طبقية على الأرض وأهلها، فنحن نجوب رحلة مثل رحلة ابن بطوطة أو ابن فضلان أو رحلات هكسلى أو جان كلود كاريير، فنجد الواحد قد صوّر الرحلة والعادات والتقاليد والحياة والأخلاق فى عصره، فى مختلف المناطق التى مرّ بها أو أقام فيها فلم يغفل شيئا ممّا يراه ضروريا، استقصاء بصرى وثقافى يسوّى بين مختلف أطياف الناس، من الحكام والأعيان وأبناء الشعب البسطاء. التربية الجغرافية قد تكون علاجًا ناجعًا لكثير من أمراض الحضارة، من خلال رفض الانغلاق النفسي، وتجاوز عقدة تصفية الحسابات التاريخية، وتوسيع الجدل حول مسائل الهوية بهدف التقليل من حدة الاختلافات. يبقى السؤال الذى يهيمن على هذا المقال: ما تفاصيل ذاكرة الخريطة؟ وما التغيرات التى تحدث يوم أن نضع الجميع على متن الورقة نفسها؟
ولكن هذا حديث آخر.