الأربعاء 17 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

زمن اللجوء

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
اللقاء بغير ميعاد كان، والفراق كان حدده القدر مسبقًا.
التقيتها فى مخيم لاجئى كوسوفا «لا تقل كوسوفو، فهذه تسمية صربية»، حيث ابتعثتُ من قِبل بيتى الصحفى الأول: «البيان الإماراتية»، إلى ألبانيا لتغطية أحداث الحرب فى البلقان، نهاية تسعينيات القرن الماضي.
صحفى فى الربع الأخير من العشرينات، مفعم بالأحلام، ممشوق القوام، وحسناء ذات عينين بنيتين ليس لهما قرار، لها وجه مستدير، وبشرة صافية كعسل النحل، وجسد بض لدن، يميل إلى الامتلاء قليلًا، كيفما يروق للذائقة العربية.
كان اسمها «كاسندرا»… لاجئة فرت مع ذويها من وحشية الحرب، فى صوتها بحة لم أسمع من موسيقى الكون أعذب منها، إذا ابتسمت كشفت عن صفى أسنان فى قمة الأناقة، وكانت سميرة ليالى الشتاء، وسط سلاسل الجبال التى تكسو الثلوج قممها، وتغطى النباتات ما دون ذلك حتى السفوح، فتبدو مثل ملوك تعتمر تيجانا فضية، وتلبس عباءات خضراء.
فى وحدتى بخيمة آثرت أن أقيم بها، من دون الفنادق، حتى أكون على صلة وجدانية بأولئك الذين هجّرتهم الحرب من ديارهم، ولم تهجر قلوبهم ذكريات الوطن، كان الليل وكانت «كاسندرا».
تقول: إنها طالبة فى كلية الطب، وكانت تحلم بأن تتخصص فى طب الأطفال، وتروى متحمسةً بلكنة إنجليزية لا بأس بها، عن بيتها الريفي، وحليب الأغنام التى كانت جدتها تربيها، وعناقيد العنب فى حديقتها، والتى أكدت أنها من ثمار الجنة.
دراستها للطب جعلتها تتطوع للعمل فى المستشفى الميدانى فى المعسكر، وكان يقع خلف خيمتى مباشرة… تقول: «أريد أن أقدم شيئًا لبنى وطني»، ما رسّخ لها فى ضميرى إكبارًا وتقديرًا عظيمين.
كنا نتسامر من كوة فى خيمتي، فنتبادل حديثًا حلوًا شيقًا، تسألني: «مصطفى.. هل تريد قدحًا من القهوة التركية؟ سأعده لك بنفسي»، أرد ممتنًا: «بالطبع، من دون سكر، رجاءً».
فى ألبانيا، لا يعرف الناس القهوة التركية، ولا الأمريكية، وإنما الفرنسية، وأنا لست محبًا لها. 
القهوة التركية شغف عظيم، وحالة عشق ممتدة فى الزمان والمكان، وكان من حسن الطالع أن ألبان كوسوفا يحتسون التركية، وعلى أصولها.
تعد كاسندرا القهوة على مهل، وهى التى «تُحوّجُ» البُن: هل تعرفون فى «كوسوفا» البن المحوج؟ تقول: لا... إن صديقة لى عاشت فى الأردن فترة، وقد علمتنى كيف أحوّجها بحبِّ الهال، وقد راق لى مذاقها العربي، ووجدت فيه لذة استثنائية.
تسألني: كيف بلغت الثامنة والعشرين ولم تتزوج؟.. أجيب: فى الحقيقة كنت أتمنى أن أتزوج صغيرًا، إننى أحب الأطفال حبًا جمًا، لكنه القدر، بوسعك أن تقولى إنى صديق جيد، وعاشق سيئ، أو فاشل.. تبتسم ابتسامة خجل: لعل القدر يبتسم لك، ليس عليك إلا أن تلتقط الإشارة.
اهتمامها كان يغمرنى حقًا، تثرثر طويلًا، وأنا أصغى مستمتعًا ببحة الصوت واللكنة الإنجليزية التى ألفتها بمرور الوقت، ولم أعد أقاطعها: «pardon me» لأنى لم أستوعب مخارج الألفاظ. 
تتعجب فى شيء من العتاب، وشيء من الغضب، من أن خيمتى صارت ملاذًا لأطفال اللاجئين، يتقاطرون عليها، عشرات وأحيانًا مئات، فيجلسون على حِجري، أو يطلعون فوق صدري، حيث أنام، أو يعبثون بأوراقي، أو أُشكّل وإياهم قطارًا بشريًا، فنطوف بين الخيام، وهم يضحكون أو بالأحرى يُزقزقون، واللاجئون من كبار السن يرمقوننى بعيون حانية ممتنة، فيما الأطباء يحذروننى من الإصابة بالعدوى، فأرد: «سلمها لله».
تعاتبنى بدلال أنثوى يشعل الجمر فى الشرايين: «مصطفى.. أنت طوال الوقت، منصرف عن كل شيء، إلا رسالتك اليومية إلى الصحيفة، والأطفال»... أفهم مغزى كلامها، فأتلعثم.
أجلس إلى طاولة جعلت منها مكتبًا، كى أكتب، فيدلف طفلان أثيران إلى قلبي: «دافير وداشنور»، فأمنحهما ورقًا وأقلامًا، وأسألهما أن يرسما ما يريدان، حتى أفرغ من عملي، ولما انتهيت نظرت الأوراق، فإذا عليها رسومات مدافع ودبابات ومنازل محطمة وقتلى.
ضممتهما إلى حضنى باكيًا: «يا الله.. أنّى لهذا الشقاء أن ينتهي؟ ما ذنب هذه البراءة؟ لماذا يحمل هؤلاء الأغرار كل هذا الأسى والشقاء؟».
كانت ترمقنى من كوة الخيمة من دون أن أشعر، ولما التفت رأيتها تمسح عن خديها المكتنزين دموعها المنهمرة... أدرت وجهى متجنبًا التقاء العينين.
فى المساء ذاته، سألتني: «متى ستسافر؟... أعلم أنك لا محالة ستمضى إلى حيث تستأنف حياتك، أما أنا فلا أعلم متى أغادر المخيم؟ اسمح لى أن أشكرك لأنك دخلت حياتي».
تمنيت للحظة أن أطبع على شفتيها الدسمتين «بوسة» أودع فيها كل ما على الأرض من جنون، طردت الفكرة، تمتمت: «ومن قال إنك ستخرجين من حياتي؟... للأقدار تصاريف، وإننا حقًا لا نفهمها».
بعد أربعة أيام، كنت أحزم حقيبتى متأهبًا لاستقلال الهليوكوبتر لتنقلنى من مدينة «كوكيس» إلى العاصمة الألبانية «تيرانا»، عائدًا إلى الإمارات، وما إن وضعت رجلى على السلم، حتى كانت يدان رقيقتان تحضناننى من ظهري، استدرت فإذا برأسها الصغير فى صدرى كوردة بلدية: «سأشتاق إليك»، همست بصوتها ذى البُحة التى اختلطت مع البكاء، فإذا به يدخل ذاكرتي، كخنجر لا يبرحه... طبطبتُ على كتفها: «سامحينى يا صغيرتي».
فى الطائرة، أخرجت مصحفًا من حقيبتي، وشرعت أقرأ، ثم دعوت لها بالخير. 
كانت «كاسندرا» حلمًا طيبًا فى زمن اللجوء، حيث تخرج الأحلام من رحم الأسى ميتة.