الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة ستار

شاهندة عبدالرحيم تكتب: "ساعة في ضيافة الكينج"

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تعودت على سماع صوته، منذ نعومة أظافري، في بيتنا، على أنغام الكاسيت، فقد كان أبي يعشق صوته وأغانيه، فتربيت على سماعها حتى عندما كان أبي يغازلني كان يستخدم أغانيه ويقول لي: "الحلو أقوله يا حلو في عيونه"، وعندما كبرت، في سن التاسعة كان يصطحبني إلى حفلاته في دار الأوبرا المصرية، يحملني على كتفيه حتى أستطيع رؤية "الكينج" محمد منير.
ومنذ ذلك الوقت، ظل "منير" يرافقني في كل مراحل حياتي بنجاحاتها وإخفاقاتها، حزني وفرحي، حين أشعر بالمرارة أو الألم لفقدان شيء ما، كان منير هو من يُعيد لي الأمل والبسمة ويعطيني دفعة إلى الأمام، فلا انكسار ولا انهزام ولا خوف ولا حلم نابت في الخلا في الخلا.
في البداية، كنت لا أفهم كل كلمات أغانيه، فمنير له قاموسه الخاص به وحده، فهو يغرد منفردًا بنوع فريد من الموسيقى، يقدمه نابعا من جذوره، حاملا دفء أحاسيسه ومشاعره.
أحببت على صوت منير، وحققت أحلامي على صوت موسيقاه، جسّد أحلام جيلي من الشباب، كبرنا معه وتعلمنا منه، فدائما كنت أرافق أصدقائي لحفلاته وكنا نسافر مسافات طويلة في أتوبيسات المنايرة نعطش ونجوع ويمر الوقت الطويل ونحن في سعادة غير طبيعية، نبدأ بالغناء والعزف على الدُّف حتى يصعد هو على المسرح ليزودنا بجرعة من الأكسجين تزيد من معدل الأدرينالين في الجسد، فمنير ليس لديه جمهور إنما شعب يؤمن به ويعشق موسيقاه، شعب لا يكل ولا يمل ولا يتعب من مطاردة منير والسير خلفه من مدينة لمدينة ومن مسرح لآخر، نقف بالساعات نغني مع الكينج، فيبعث فينا الدفء والحياة.
نحزن عندما ينتهي الحفل، وننتظر بشغف موعد الحفل القادم.
أذكر أن كل شجاراتي آنذاك مع عائلتي دارت حول اعتراضهم على سفري وحدي وأنا صغيرة لحفلاته، خاصة عندما يكون أبي خارج البلاد، في مدن بعيدة وأوقات متأخرة، لكن ماذا أفعل ومنير كان هو الحافز لي في كل شيء، فهو حالة لا تنتهي.
واليوم وأنا صحفية أتنقل من مؤتمر لآخر لعمل تغطية لجريدتي، بيتي الكبير "البوابة"، أحضر حفلات كثيرة، ولكن يظل منير هو الفنان الوحيد الذي أنسي أمامه مهنتي ووقارها وأتذكر فقط طفولتي وسنوات المراهقة.
اليوم كان منير يختتم فعاليات منتدى أفريقيا ٢٠١٨ في مدينة السلام "شرم الشيخ" بحفل رائع بحضور وفود أفريقية وشباب من كل الدول، كنت فخورة به كعادتي، فهو صوت مصر يمثلنا ويمثلها في كل محفل عالمي، منير من وجهة نظري، هو صورة الفن والموسيقى في بلادنا، تفاعلت مع موسيقاه وأغانيه كعادتي، ورددت كل حرف فيها، وعقب المنتدى جلست معه لأهنئه على حفله الرائع وكيف انبهرت الوفود الأجنبية بصوته وعذوبة موسيقاه القريبة جدا من الإيقاعات الأفريقية، وهمست له قائلة "أنت غازلت الأفارقة النهارده بحبيبي لون الشوكولاته.. قالي الشوكولاته يا شاهندة عندي أرض وطين ووطن.. نظرت له وقلت يا ملك أغانيك مهما غنيناها وسمعناها هنفضل كل يوم نكتشف معانيها تلك التي تسكنك وحدك"، ابتسم ابتسامة غريبة وكأنه يعرف تماما أنه يغني للجميع للوطن للحبيبة للإنسانية وللطبيعة، موسيقاه تخلط هذا المزيج الذي يستطيع أن يضعك في حالة فريدة من نوعها، فأتذكر جيدا في حفلات الكينج خارج مصر، كيف كان الأجانب يرقصون منتشين بأغانيه وموسيقاه على الرغم من أنهم لا يفهمون اللغة العربية أو اللهجة النوبية، لكنهم كانوا يشعرون به وبموسيقاه التي استطاع توصيلها لهم بإحساسه.
قالها اليوم وهو يرحب بالوفود الأجنبية لن أتكلم الإنجليزية كثيرًا لأننا عندنا لغة أحلى وأبسط من كل اللغات، نفهمها جميعا، هي لغة المزيكا.
رويت لـ"منير" اليوم كيف أنه حالة تستطيع إخراجي من أحزاني وتشاطرني أفراحي، حكيت له تجربتي السيئة مع المرض، وكيف كان هو رفيقي الذي يخفف عني ألمي، كنت أسمع وأغني معه، مش لايق عليا إني أبكي وسط ما بغني، ولو مطر الدموع خاني تلحقني بسمة أمل.. كانت موسيقى منير وأغانيه هي التي منحتني بسمة الأمل التي أخرجتني من أحزاني وقتها.
كان سعيدًا وهو يرى واحدة من أبناء شعبه وجمهوره الذين عشقوه وهي تتحدث بكل شغف عن حبها له ولموسيقاه، تتحدث معبرة عن جيل كامل استطاع منير أن يجعله شبهه.
منير الذي يطربنا ويسعدنا، مرَّ في الآونة الأخيرة بتجربة مرض أيضًا، كان يتلقى علاجه في ألمانيا، ومن الممكن أن يكون هو الآخر يحمل في قلبه شجنًا وحزنًا من فقدان أحباب، ولكنه ما زال يعطينا الأمل والحب عبر موسيقى لا تعرف غير ذلك ولا تعرف غيره أيضًا.
مثلما قال هو نفسه: أنا لسه قادر في الحزن أفرح، فمن حقه علينا ومن حق جمهوره كله أن يعطيه الحب الذي شاهدته اليوم من جموع الشباب المتيم به، فهو حالة ستظل تمتعنا إلى الأبد، أعتبر اليوم من أسعد أيام حياتي، فكرم منير معي كان بلا حدود مثل كل أهل النوبة، فقد استضافني الكينج ساعة كاملة، لم أشعر بمرور الوقت خلالها وأنا في حضرته، كالمريد في حضرة شيخه، أهداني سوارا كان يرتديه من أحجار ملونة وتاجًا من الفضة ووعدته بأنني سأحتفظ بهما دائمًا.
شكرًا منير على كل ما أعطيته لنا، وعلى تشكيلك ومرافقتك لحياة جيلي بالكامل، ودمت لنا ولعشاقك وشعبك "المنيريين" نبعًا للحب والأمل.