الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

يا رب كل من له حبيب

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
نسائم بحرية لطيفة، تتحدى رطوبة أغسطس اللزج، فى الإسكندرية، على غير المألوف فى ذاك التوقيت من العام.
وحيدًا يسير بمحاذاة ساحل البحر، قادمًا من سيدى بشر، قاصدًا بيته فى كليوباترا، يدندن أغنية ما، فيما يحث خطاه، كأنه تأخّر عن موعد، وما هو على موعد، لكنه دأبه متى مسّه الحزن، وذبحت الوحدة شرايين قلبه: تدبُّ قدماه على الأرض دَبًّا، يقطع المسافات الطويلة حتى تتحطم خطواته، فتخور قواه، عسى أن يغلبه الإرهاق، فلا يدور طوال الليل على مرافئ الأرق والسهاد.
كأنه عاد من غربة أكلت من عمره سنين، فإذا برفاق العمر، أولئك الذين شاطروه الأحلام الغريرة، والخطايا البريئة، والعيش والملح، و«خمّسوا معًا السيجارة الواحدة»، ينفضّون من حوله، لقد رجع من مهجره، صفر اليدين، جنى أموالًا جمة، وبددها عن بكرة أبيها، فلا جدوى إذن للعِشرة، ذاك كلام عاطفى لا يسمن ولا يغنى من جوع، كان ساذجًا بامتياز.
إنه يقترب إلى شاطئ «ستانلي»؛ حيث يحضن مبنى فندق «سان جيوفاني» العتيق، منذ نحو قرن من الزمان، أمواج البحر المتبخترة صيفًا، الثائرة شتاءً.
فى زاوية من قاعة الفندق، كم كان يطيب له، تناول فطوره يوميًا: قهوة فرنسية، وقطعة باتيه ساخنة، يأكلها على مهل، مُرسلًا نظراته إلى الموج، فى أيام النوّات، فإذا غامت السماء، وضرب رذاذ البحر المائج، الشبابيك الزجاجية المطلة على اليمِّ، هطل الشعر مدرارًا.
تباغته الذكريات، فى المكان تعرّف على هاتيك النادلة الحسناء، كانت طالبة فى كلية السياحة والفنادق، هيفاء ممتلئة نوعًا ما، بشرتها بيضاء مشربة بحمرة عفيّة، فى ذقنها طابع حسن، لها خدان مكتنزان، وابتسامة طفلة، وكانت متى اتخذ مقعده فى زاويته المعتادة، رمقته بشغف، فإذا شرع يكتب، اختلست النظرات إلى الأوراق أمامه.
ذات مغرب شاحب، دنت إليه فى حياء، مالت عليه فتمتمت: «سأعد لك فنجان قهوة إضافيًا، حتى تكتمل القصيدة»، ابتسم فى وجهها الصبوح مُمتنًا، عبّ التبغ الفرنسى متلذذًا: «بأسرع ما يكون رجاءً»، فمضت الفتاة بخطوات مضطربة، لتقدم مع القهوة قطعة من الـ«بلاك فوريست»: «هذه من عندي».
كان وقتها فى إجازة لمدة أسبوعين، بعدهما سيحزم حقائبه عائدًا إلى منفاه، أخذ يرشف القهوة، ونفسه تحدثه: «شهية كالحلوى الفرنسية التى تقدمها، لكن ما الجدوى؟ ما هى إلا إيام حتى أكون قد رحلت، حرامٌ أن يتعلّق قلبها برجل غربته مسطّرة على جبينه، إنها قصيدة ليس مقدّرًا لها أن تكتمل... لو كنتِ يا حُلوتى فى زمن آخر، وظرف آخر، لمضيت قدمًا فى إغراء المغامرة، لست أحتاج إلا أنثى تحب الشعر، وتعد لى فنجان قهوتي، من دون سكر، لكن هذا أنا، رجل أدمن السفر، وأدمنته المنافى».
فى الزيارة الأخيرة لـ«سان جيوفاني»، قبيل إقلاع طائرته بساعات، أهداها عددًا من دواوين الشعر، وودعها شاكرًا اهتمامها به، فشيعته بعينين باكيتين... غادر المكان مستعجلًا، حتى لا تخونه دموعه أمامها.
مشى إلى بيته بمحاذاة الساحل، رجله تدبّ على الأرض دبًّا، وهو يغني: «حاول تفتكرني».
واصل سيره، حتى بلغ سنترال «رُشدي»، المكان يشهد على مراهقة عابثة، كان فى أيام الصيف، يقف إزاءه فإذا راقت له فتاة من المصطفات، لم يغازلها، بل اكتفى بتسجيل رقم هاتفه «الأرضي» بأصبعه على زجاج السنترال، مستفيدًا من بخار البحر المتكثف عليه، وكانت الجميلات يضحكن مما يفعله، ومعظمهن يتصلن لاحقًا، لأن «الحركة أعجبتهن».
تنهد وابتسم: سقى الله أيامًا كانت الحياة فيها كحلاوة الروض المطير، أيامَ لم نعرف من الدنيا، سوى مرح السرور، كما يقول «الشابي» فى قصيدته «الجنة الضائعة».
بلغ سيدى جابر، فقرر أن يستريح قليلًا، جلس على سور البحر، ظهره إلى الأمواج، يتفحص وجوه المارة، وتلك هواية قديمة، إن الوجوه تحكى الكثير: هذا متعب مرهق، ذاك مكفهر، عابث، طيب سمح، ذو نظرات حادة، أو ساذجة، هى انطباعات ليست دقيقة على أية حال.
أشعل سيجارة، وجالت عيناه فى المكان، حتى وقعتا على زوجين فى الثلاثينات على وجه اليقين، ينتحيان زاوية ما، إزاء مستشفى القوات المسلحة، فأخذ يتأملهما من دون هدف محدد.
على ملامح الرجل حُفِرَ عبوس حاد، وإلى جواره زوج ذات وجه جميل، تفيض نظراتها بالشفقة، تضع يدها فى كفه، فيزيحها بعنف، فيرتد طرفها كسيرًا، تربت على ظهره، فيرمقها شزرًا، تفتح حوارًا، فلا ينبس ببنت شفة، يبدو أن الخلاف بينهما حاد وجذري، هكذا تراءى له.
المشهد استحوذ على اهتمامه كليًا: لماذا يكسر ذاك السخيف خاطرها بهذه الفظاظة؟
سكنت الزوج دقائق، ثم أخرجت من حقيبة ما «تُرمس شاي»، فصبت له قدحًا، أخذه من يدها بعنف، ثم أخرجت قطعة كعك محلاة بالسكر، فقدمتها إليه بيد مرتعشة، أخذها ثم نظر فى عينيها، فابتسم فابتسمت، فانفجرا فى الضحك فجأة، مالت برأسها على كتفه، طوقها بيمينه.
انتشى الغريب بسعادة ندية، ثم قام وحيدًا، عائدًا إلى بيته، وحيدًا، وهو يتضرع إلى السماء، وحيدًا، بكلمات أغنية سيد درويش: «يا رب كل من له حبيب لا تحرمه منه».