الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الوعي الزائف

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
مع وصول الطبقة البرجوازية إلى السلطة وتطور الثورة الصناعية فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، وما أفرزته – هذه الثورة – من نتائج اجتماعية وسياسية وثقافية؛ وما تضمنته هذه النتائج من دلالات عميقة (تشير إلى حالة الصراع الذى كان يدور بين الطبقة الرأسمالية من جهة، وجماهير الشعب العاملة من جهة أخرى) برز موضوع الفكر والوعى بشكل أكثر وضوحًا عند «ماركس» و«إنجلز»، وذلك عندما أشار «إنجلز» فى رده على رسالة وُجِهَت إليه من «فرانز مهرنج» فى برلين عام ١٨٩٣، يسأله فيها عن مفهوم «الأيديولوجيا» فقال: «الأيديولوجيا عملية يقوم بها من يوصف بالمفكر، ولكن من خلال وعى زائف False Consciousness، والقوى الحقيقية التى تحركه تبقى مجهولة بالنسبة له. ولو لم تكن كذلك، لما أصبحت العملية أيديولوجية». 
اتخذت كلمة «الأيديولوجيا» – فى مذهب هذين المفكرين – معنيين مختلفين أتم الاختلاف. وكان أول تعريف فى كتاب «الأيديولوجية الألمانية» عبارة عن تأكيد للدلالة التى عبر بها نابليون عن رفضه للفلسفة المثالية المتوارثة عن فكر «هيجل»، فكان رأيهما فى «الأيديولوجيا» أنها مجموعة من الأخطاء والأوهام والتلفيقات التى يمكن شرحها استنادًا إلى التاريخ الذى تناولته بالتشويه والتغيير. فـ «الأيديولوجيا» هى تشويه الحقائق وتزييفها بقصد تبرير موقف الطبقة الحاكمة، وقد أطلق عليها «ماركس» عبارة «الوعي الزائف». وكان أساس هذا التعبير النقدى لـ «الأيديولوجيا»، الرغبة فى تفنيد نظرية «هيجل» المثالية التى ترى أن البشر ما هم إلا أدوات فى أيدى التاريخ؛ يقومون بأدوار عُهِدَت إليهم من قِبَل قوى مستعصية على الإدراك. والفيلسوف وحده – فى رأى «هيجل» – هو القادر على أن يفهم وقائع العالم على حقيقتها. على ذلك، كان نقد «ماركس» موجهًا ضد هذه المحاولة لتبرير الحالة الراهنة فى المجتمعات.
وقد بدأت الدلالة الأخرى لـ «الأيديولوجيا» فى الظهور، عندما أشار «ماركس» فى مقدمة كتابه «مساهمة فى نقد الاقتصاد السياسى» عام ١٨٥٩ إلى نمط إنتاج الحياة المادية والذى يحدد بدوره الأطر التى تسير عليها الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية بوجه عام، فليس وعى البشر هو الذى يحدد وجودهم؛ بل إن وجودهم الاجتماعى هو الذى يحدد وعيهم. ويدل المعنى السابق على أن الأشكال المختلفة التى تتخذها «أيديولوجيا» معينة، ما هى إلا تعبيرات عن المتغيرات التى تطرأ على الظروف الاقتصادية للإنتاج. وتشكل قوى الإنتاج وعلاقاته – معًا – ما يسميه «ماركس» بالبنية الاقتصادية للمجتمع، أو «البنية التحتية». ومن هذا الأساس الاقتصادى تنشأ فى كل مرحلة «بنية فوقية»، أو أشكال محددة من القانون والسياسة؛ ونوع محدد من الدولة وظيفتها الأساسية هى إضفاء الشرعية على سلطة الطبقة الاجتماعية التى تملك أدوات الإنتاج الاقتصادى. ولكن «البنية الفوقية» تحتوى أكثر من ذلك، إنها تتكون من أشكال محددة من الوعى الاجتماعى (أشكال سياسية، ودينية، وأخلاقية، وجمالية... إلخ) يسميها «ماركس» «الأيديولوجيا». ووظيفة «الأيديولوجيا» هى إضفاء الشرعية على سلطة الطبقة الحاكمة فى المجتمع، فالأفكار السائدة فى المجتمع هى أفكار الطبقة التى تحكم هذا المجتمع. معنى ذلك – كما يرى ماركس – أن كل طبقة جديدة تحل محل الطبقة التى كانت مسيطرة قبلها، وتضطر – لكى تصل إلى أهدافها – أن تُصَوِّر مصلحتها كأنها المصلحة المشتركة لكل أفراد المجتمع.
وبقدر ما تسيطر الطبقة المستغلة وتصبح عائقًا فى وجه التطور الاجتماعى الأوسع، بقدر ما تستخدم أيديولوجيتها فى الحفاظ على سيطرتها؛ وفى محاربة الطبقات المقهورة. وهنا يؤكد «ماركس» أن الطبقات ليست جامدة لا تتغير، ولا هى شىء معطى منذ البداية؛ بل هى نتاج تطور تاريخى فى الوقت الذى هى فيه القوى المحركة لذلك التطور. فالمجتمع البورجوازى الحديث الذى انبثق من أنقاض المجتمع الإقطاعى لم يزل التناقضات الطبقية، بل أدى إلى قيام طبقات جديدة وشروط قهر جديدة وأشكال نضال لتحل محل الأشكال القديمة. غير أن الحقبة البرجوازية، تملك ميزة واضحة هى أنها بسطت التناقضات الاجتماعية؛ فالمجتمع ككل يزداد انقسامًا بإطراد إلى معسكرين كبيرين متعارضين – أى طبقتين تواجهان بعضهما مباشرة – «البرجوازية» و«البروليتاريا». 
لكن السؤال الذى يطرح نفسه هو: مَنْ يملك الوعى؟ يرى «ماركس»، أن الذى يملك الوعى هى الطبقة التى تنشد تحرير الإنسان من الأوهام المتعالية التى تحجب عنه الواقع العيانى، وتضع روحه فى عالم الظلمة؛ وتجعله غريبًا عن حياته الحقيقية. هذه الطبقة هى «البروليتاريا»، الطبقة الوحيدة التى بتحررها تتحرر البشرية بكاملها؛ إذ إن مصير البشرية مرهون بمصيرها. إنها الطبقة التى لا تحتاج إلى أية «أيديولوجيا» لتخفى بؤسها تحت حجاب من العمومية، إنها الطبقة التى يجسد بؤسها بؤس البشرية؛ ففى اللحظة التى تتمرد فيها من واقعها ومن شقائها، يتحرر الجميع من بؤسهم وشقائهم.