الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ومضات

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
من رحله عشتروت إلى إسبانيا(2)
الفلامنكو عربى الحنجرة والعود
١- قبل استكمال مشوار الدهشة إلى سيفليا أحب أن أعرف القراء من هى عشتروت التى ستحدثنا عن رحلاتها
سألنى مستشار تسويق محب ومعجب بومضاتى فى «البوابة»، وهو ابن
الست مديحة أعز صديقة مصرية لي.
يا مادو هو أنت عشتروت؟
أجبته بلهجته المصرية
(يا محمد..
حكمل جولتى فى إسبانيا
أنا وعشتروت
اللى سكنت جوايا..
هى ما بتفارقنيش
أبدا..
هى آلهة الحب عند الفينيقيين
وهى عشتار فى بلاد ما بين النهرين
وهى نفسها أفروديت عند اليونانيين
وإيزيس عند المصريين..
أصلها ملت من حبسها فى الروايات
والأساطير
وقررت أن
تسكن فى قلمي،
ولشدة ما كنت محتاجة لحرارتها، رحبت بها،
ونفضت عنها الغبار،
ووضبنا الشنط وقررنا التجوال..
هى التى تدفعنى للمغامرة
وأنا.. بتاعة الثبات والواقعية،
هى تستمتع فترقص فى الشارع وتجالس رساما سكيرا وتصدق حدوتة،
وأنا.. أصحيها للواقع لتتراجع وتتجه إلى مدريد.
أنا وعشتروت سنتجول فى كل أنحاء الدنيا
حنقرأ كتب
ونلف الكون سياحة،
سكنت
جوايا خلاص
وعشتروت ابتدت حواديتها الشيقة
من إسبانيا
Olle
وانتظر مفاجآتها)

كنت أنا وعشتروت بدأنا رحلاتنا من إسبانيا وأوصلتني
رغبتى بالمعرفة،
وحس المغامرة عند عشتروت،
إلى مصنع التبغ فى سيفليا(إشبيلية)
حيث كانت تعمل(كارمن)
الغجرية الأسطورة
فى قصة الكاتب الفرنسى
prosper me›rime›e.
و.. تأبى (عشتروت) أن تترك سيفليا إلا بعد أن تكمل سلسلة الدهشة عن شخصية carmen
التى ألهبت مخيلة الكتاب الأوروبيين وكبار مؤلفى الأوبرتات المسرحية الموسيقية.
أمثال جورج بيزيه George Bizet
وفى مصر أحياها
المسرحى محمد صبحى وسيمون،
على مسرح سينما راديو عام ١٩٩٩
وتقودنا الأقدار للقاء رسام أمريكى يعيش من بيع لوحاته التجريدية،
ادعى أن المصنع موجود بالواقع،
رغم جهل الإسبان الذين سبق وسألتهم عن موقعه.
رافقنى الرسام المدعو بيكاسو، بخطوات واثقة إلى مصنع التبغ والدم،
لأن ذلك المصنع روى قصة كارمن العاشقة للحرية والتى تعاملت مع الرجال بعقل ورغبة رجل، فأدى برود قلبها، وسخونة جمالها،
إلى معركة بين حبيبها الجندي، وعشيقها مصارع الثيران (التوريرو) فى باحة مصنع التبغ.. وانتهت
بمقتلها..
وصلنا أنا وعشتروت وبيكاسو الأمريكاني
إلى مصنع تبغ مهجور،
له باحة رملية.
الرسام بيكاسو بصوت قرار أشبه بفحيح
«فى هذا المصنع قتلوا رمز الحرية المطلقة كارمن».
نظرت حولى علنى أجد لوحة سياحية تشير للمعلم الأدبي، فلم أجد أى إشارة مفيدة..
المصنع عادي.. مهجور وبابه من الحديد مخلوع وموارب، ونوافذه علاها الصدأ،
ومن زجاجه المكسور تتفسح
أفواج طائرة..
عشتروت يخفق
قلبها وتكاد تسمع صرخة carmen وفى داخلها ثورة (لماذا المرأة الحرة لدرجة الفوضى، دائما تغتالها أيدى ذكر ديكتاتورى).
بيكاسو يصعد الأداء ويمد ذراعيه كأنه أنتونى كوين فى فيلم زوربا اليوناني
ويسألني، (بصى فوق.. شايفة الشباك فوق. من هنا أطلت كارمن على الجندى خوسيه الذى أتى ليعتقلها، فوقع فى لعنة شهوة عينيها وأصبح خادمها).
أعجبتنى الحالة، لكن ليس لدرجة أن أوافق بأن يسحبنى بيدى إلى داخل المصنع.
انتفضت وتحررت من قبضته وأدخلت يدى إلى محفظتى
بحثا عن السكين فى علبه (الأفانتورا ادفنتشر) التى اشتريتها فى قطار سيفليا..
فتراجع أداؤه المسرحى عندما قرأ خوفى، وساد صمت بيننا «دمه تقيل».
ثم سحب من جرابه القماشى على
ظهره لوحة تجريدية ثانية
وقدمها لي.
فسحبت بدورى لوحته السابقة التى كان قد قدمها لي
فى مطعم الكهف
Restaurante cueva
وقبلتها مجاملة،
أعدتها له وأنا أنهي
أسطورة كارمن ومصنع التبغ
(بيكاسو على فكرة أنا ما بحبش الرسم
التجريدى.. سلام)
فى طريق العودة إلى مدريد
ألف فكرة تراودنى..
فشنطة ملابسى لم تصل معى إلى مطار مدريد، ووعدونى بإرسالها إلى الفندق إن.. وجدوها ليلا..
ورغم أننى حفظت كلمتى
the speech
والتى سألقيها بالإنكليزيه فى مساء الغد
بعنوان (تأثير الدراما الإسبانية والبرازيلية والأرجنتينية المدبلجة، على الشرق الأوسط) لكننى اصطحبت
برحلتى الخطاب
The speech
لأذاكره فى القطار.
أما عشتروت رفيقتي
اللاهثة أبدا لمعرفة المجهول، فقد اتخذت قرارها..
لا للعودة إلى الفندق..
نعم للذهاب من محطة القطر إلى المطعم؛ الذى حجزته فور وصولى الفندق للعشاء وحضور رقص الفلامنكو..
Olle
Olee
فى بحثى عن مصدر هذه التحية التى ترافق رقصة الفلامنكو توصلت إلى أنها قد تكون أصلا (الله).
فكلمة فلامنكو ارجعوها إلى كلمتى (فلاح منكوب) وقد امتزج المنكوبون فى زمن الملكة إيزابيلا من الموريسكيين
والغجر والمسلمين
ليصبحوا الفلامنكو..
وليتحول رقصهم بالنقر، إلى ثورتهم على وضعهم.
ويشمل رقص الفلامنكو ثلاثة عناصر.
الغناء cante.
والرقص baile والجيتار guitarra
يرافقه التصفيق اليدوى palmas.

ظهر العازف أولا. ومعه مثفقو الـpalmas فتوقف إنزال أطباق الأكل احتراما..
وعندما سخن العزف،
سخنت معه عشتروت
فى داخلى،
وكادت تقف انفعالا لتعترض فهذه المعزوفة التصاعدية للموسيقار فريد الأطرش..
هدأتها.. لتبقى فى مكانها.. فأساس ذلك العزف أندلسى يعنى عام 711ميلادية والأمير الأطرش هو الذي تأثر بها.
لم يكن العازف بمهارة Francisco Gomez لكنه مهد لدخول المغنية الغجرية التى كادت تبكينى لشدة صدق نقلها لحالة الألم فى إنشادها.
أين الراقص؟
عشتروت صورته لى عملاقا أسمر، جذوره عربية، شعره طويل بسواد الليل، وانحناءات جسده واضحة؛ فرياضة رقص الفلامنكو تقوى العضلات..
أين راقص الفلامنكو؟
ودخلت الراقصة
.. وشاحها أحمر ومرصع بالفصوص، كانت تنتفض بكبرياء،
لا تهز وسطها كرقصنا الشرقي،
لا تبتسم
لكنها مثيرة،
لم تكن تنظر إلينا أبدا،
وكأنها أزميرالدا راقصة الأديب (فيكتور هوجو) من روايته (أحدب
نوتردام)، ترقص لتحرر جسدها.
كانت ترقص وتنظر بعيدا نحو نافذة المطعم كأنها تنتظر حبيبها.
روعة..
لكن أين الراقص الإسبانى الوسيم؟
ثم سحبت وشاحا من العازف وبدأت بأناقة
تراقصه،
وتذكرت أن الشعر الذى نشأ فى الأندلس، وكان نتيجة احتكاك العنصر العربى بالإسباني، سمى بموشحات، تيمنا بشالات الراقصات الموشحة بالألوان..
بديع..
لكن أين راقص الفلامنكو؟؟
وفجأة.. تغيرت نغمة الموسيقى إلى شرقي.
والمغنية الغجرية مع ضارب الصاجات
(الكاستنيات) بدآ
معا بالزغاريد، وترديد بعض الكلمات (كأنها) عربية.
أما الجيتار فنغمته (كأنها) آتية
من عود زرياب.
آااه.
تسارعت دقات قلب عشتروت فى داخلي.
وتسمرت عيناى كوتد بيرق على المسرح يشير إلى أننى هنا.. وفى انتظاره.
وأطل (نجم السهرة).. أطل. مم.
قصير،
بشرته لزجة البياض،
عيناه زرقاوان كسمكتين
ميتتين،
No curves
لا انحناءات فى جسده غير الرياضي،
ولا أى جذر عربى فى ملامحه.
وبدأ ينقر بنعليه على رأسي.
فطاولتى هى الأولى، وتحت أقدام المسرح مباشرة،
«متر.. هات الحساب»..
واندمج هو فى الرقص.. وبدع..
وساد الصمت بين الجمهور احتراما لتلك الروح المتوهجة فنا.
ثم أطفاوا الإضاءة على الخشبة وفى الصالة،
باستثناء شموع الطاولات وسبوت
إضاءة كأنه نازل من السماء على راقص الفلامنكو..
وبدأت قامته تمتد، وتمتد،
وبدأ يطوول فى عيني..
أما بشرته البيضاء، فأصبحت وردية.
ولمحت دموعا فى عينيه، كان يتوجع مع الكلمات المغناة،
ويرقص بعنف شهى يروى قصة ظلم وكبرياء.
وما كادت تنتهى رقصته، حتى وجدت عشتروت تقبل له الخشبة التى رقص عليها، كتحية احترام لهذا الفن الإسبانى المشرقي.
وصلت الفندق مسحورة...
لتقابلنى على الباب، شنطة ملابسى التى كانت مفقودة.. وعادت.
ومضة أمل،
الفن ليس مهنة،
بل عبادة شكر للخالق.