الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

في ليالي الشتاء

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يصحو الصغير من نومه متثائبًا، فتشيل أمه الغطاء عنه، فى شتاء الإسكندرية القارس؛ حيث النوّات تخرج من رحم النوات، فيعض البرد بقسوة أطرافه، لكنها المدرسة، فى شهر «طُوبة» يلعنه الله.
له غرفة صغيرة فى ركن ركين، تُشرف على حديقة خلفية، بمنأى عن ردهات البيت وغرفه، والبيت عتيق ذو سقف عالٍ، وهو فى وحشته يتكوَّر فى سريره، يرتعب من مواء قطط تتعارك خلف شباكه الموصد، ويرتجف قلبه الطفل، إزاء عواء ريح، تلهو بأوراق شجرة الحديقة الوحيدة العجوز، يدفن وجهه فى الوسادة، يتقلّب فإذا وجه ذئب أسود الشفتين، يطل من الجدران، يقرأ المعوذتين، ويذرف دمعًا بريئًا: يا رب، لماذا أنا وحيد؟ بينما شقيقه وشقيقته ينعمان بحضن الأم الوثير، بعد سفر الأب إلى بلاد النفط، منتصف السبعينيات.
حضن أمه نعمة لكنها ليست له، فهو الكبير، وهو يرتضى هذا الواقع، أو لعله مرغم على أن يرتضيه، فلا خيار آخر، وهو ابن السادسة!
ليلته لم تكن هادئة، راودته خيالات مرعبة، يخجل من أن يرويها لأحد، ولما غلبه النعاس هاجمته الكوابيس بشراسة، رأى شريرًا ذا جلباب، كمجرمى أفلام الأبيض والأسود، يريد خطف أخيه وأخته، ومعه حقنة مسممة، يسعى لحقنهما، وهو الكبير، المسئول عن حمايتهما، لم يروِ الكابوس لأحد، إن الكبار يؤكدون أن من يرى منامًا مزعجًا، لا ينبغى أن يقصه، كيلا يتحقق، إنه مترع بالخوف على شقيقيه، لكنه سيكتم الأمر، وهو ابن السادسة.
يترنح فى طريقه من غرفته النائية، إلى الحمام، يرنو إلى المرآة بعينين خضراوين حزينتين، يمشط شعره، دون اكتراث، ثم يتوجه إلى الصالة، فيتناول إفطارًا أعدته أم حريصة على تغذية فلذات أكبادها، تغذيةً مثالية: بيض بلدى مسلوق، وجبن أبيض، وزيتون مخلل «بيتيًا»، وشاى بلبن عليه ملعقة عسل أبيض.
الصغير الصامت دائمًا، والحزين فطريًا، الأكول جدًا، يزدرد «الفينو الساخن» بنهم، ومع الإفطار تُشغّل أمه شريط كاسيت، فينساب صوت عبدالحليم حافظ فى أروقة المنزل العتيق: «اجعلنى صادق أقول الحق لو كان مر، اجعلنى ما اسمعش إلا صوت ضميرى الحر»، هكذا يبدأ اليوم، كل يوم، ومع صوت حليم وناى محمود عفت، ينبجس فى قلبه شجن ثقيل، وهو ابن السادسة!
يردد الكلمات ببغاويًا: «أدعوك يا سامع دعايا، يا عالى فوق كل غاية، يا عالم السر وحدك، والأمر لك فى النهاية»، هكذا تنغرس المعانى فى وعيه، فيرددها اليوم متى يحس ضعفًا، متى تقسو عليه غربته فى عالم ليس يألفه، متى تقصد مراكبه المرهقة، مرافئ الخذلان فتأبى منحه خاتم الدخول.
عرف بيته جهاز التسجيل «هيتاشي»، من أجل «حليم»، كان من الهدايا فى حقائب أبيه لدى عودته فى إجازته الأولى، وإلى جواره عديد من شرائط العندليب، ذلك قبل أن تدخل مفردة «ألبوم» قواميس الإنتاج الغنائي.
إن الصوت الناعم المرهف كحد خنجر، دخل فى خلايا لحمه الطري، فلم يعد ممكنًا نزعه منها.
البيت كله «حليميُّ المزاج»، الأب يدندن: «صافينى مرة»، الأم التى تحفظ من القرآن عدة أجزاء، وتقرأه ترتيلًا وتجويدًا، تطرب لـ«على قد الشوق»، الخال طالب الحقوق العابث، والذى فى ملامحه الكثير من سمرة العندليب، ووجهه المعروق، يجلس فى «الجنينة الخلفية» مساءً، وبين يديه عود: «أما أنا، وحدى أنا، بأشوفك بس بعيون غير عيون الناس».
يطرب لقصيدة «يا مالكًا قلبي»، يستوقفه شطر: «النهر ظمآن لثغرك العذب»، يتساءل: هل يظمأ نهر؟ ويتألم ألمًا غائرًا مع مقطع: «آه من الأيام آه، لم تعطِ من يهوى مناه»، تروق لذائقة لم تكتمل بعد، موسيقى النص الشعري، كما يمسه الوجع حيث يسرى من حنجرة حليم، وهو يرسل الآهات، ذلك من دون أن يفقه الصورة الجمالية، إنه ابن السادسة!
قدره «الحليمي» لم يحدد ذوقه فى الغناء، بل رسم أيضًا الكثير من ملامح شخصيته.
عبدالحليم لم يكن فى وجدانه مجرد مطرب، كان صديقه الأثير، لقد أتقن القراءة والكتابة فى الخامسة، فلم يترك حرفًا فى دورية أو صحيفة يومية، عنه من دون أن يلتهمه التهامًا، يعلم أنه يتيم، هذا فى الواقع، وفى أفلامه هو العاشق المغدور، وهو الفقير، وهو مريض القلب.
خيال الطفولة لا يعرف الفاصل بين الواقع، وما يراه على الشاشة، إنه يحبه، ويأسى عليه، يتعاطف معه، بل إنه يحمل فى قلبه «وجيعته» أيضًا، وهو ابن السادسة!
يتذكر عبارة لصديقة تخرجت فى معهد «الكونسرفتوار»: حليم علّمنا الحب، فيترحم عليه من أعماق قلبه، أى عمل أعظم فى هذه الدنيا، من تعليم الناس أن يحبوا، هذا يكفى لأكون ممتنًا له ما حييت.
الطفل فالمراهق فالشاب فالرجل، تهجى أبجدية الحب من أغنيات حليم، آمن يقينًا أن الحب هو الإيثار، كبر وقد ملأت قلبه الندوب، واستقرت به «ذبحة»، لكنه لم يزل متى ناء بما يحمله ظهره من وحدة، يدندن بينه وبين نفسه: «يا قلبى خبي.. ده مش نصيبى لكن حبيبى وأكثر شوية»... ويدندن وقد تترقرق من مآقيه الدموع، فى ليالى الشتاء، وهو ابن الثامنة والأربعين.