الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

إنه الحب.. الموت الجميل

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
عندما اشتدت آلام السرطان على الرئيس الفرنسى الراحل، فرانسوا ميتران، سأل طبيبه: «ماذا سيحدث لو توقفت عن الدواء؟» فأجابه: «يؤسفنى يا سيدى، أن أخبرك أنك ستموت فى غضون أيام».
أغمض الشيخ ذو الثمانين عينيه، وأرجع رأسه إلى الوراء، برهة، وعلى محياه ارتسمت قسمات الأسى، لقد حسم قراره: «لا مبرر لتأجيل الرحلة».
كان سرطان البروستاتا، قد أنهكه، إن الحياة تغدو بغير قيمة، حين يستعمرها الألم، شكة دبوس هينة قد تحرم الإنسان هدأة الكرى، وجع الضرس قد يُذهب عقله، ويجعله يدور كالمجنون فى الظلمات من غرفة إلى غرفة.
قرأت قصة «ميتران» تلك، فى تقرير بثته وكالة «الأنباء الفرنسية»، وكنت وقتها صحفيًا ناشئًا، فانفعلت كثيرًا، وتوجعت كثيرًا، وسألت الله عز وجل، أن لا أُعمّر حتى وهن العظم واشتعال الرأس شيبًا... أريد أن أموت «على رِجلى».
رفض العلاج من الموضوعات الشائكة التى تناقشها الدساتير الطبية باستفاضة، وقد استقرت جميعها فى النهاية، على أن الأمر حق أصيل للمريض، فلا يجوز إجباره على ما لا يرغب، وهو ما يمثل بدرجة ما انتصارًا للحريات الشخصية.
أيما يكون من أمر، فإن رفض المرضى العلاج، لا يقتصر على الحالات التى قنطت من رحمة الله، أو التى استبد بها الألم، بل إن الإنسان فى أحيان أخرى، يرفض الشفاء، لأنه فى مفارقة غريبة يجد السعادة فيما يؤلمه، وهذه خاصية يتفرد بها المحبون الصادقون.
شاعرنا «شوقى» التقط «خيط الضوء» ذاك، فصنعت عبقريته منه حالة شعرية وشاعرية شفيفة للغاية، فى مسرحيته الأثيرة على قلبى «مجنون ليلى»، حيث تسعى أم قيس إلى علاجه من «تباريح الحب»، التى ألّمت به، فصار يهيم فى البوادى، يبحث عن معذبته فى عيون الظباء، وخلف كثبان الرمال، يوشوش العواصف، تطارده الأشباح ويطاردها، يهزل ويهذى ويسقط مغشيًا عليه، إلى آخره.
الأم الأسيفة استقدمت عرافًا، فإذا به يطلب شاة، فينزع منها القلب، فيقرأ عليها تعاويذه وطلاسمه، ثم يوصى بإطعامها لـ«المجنون»، حتى يبرأ.
وطبيعى أن يرفض العاشق الدواء، غير أنه إزاء توسلات أمه يرضخ أخيرًا، بشرط أن يطعموه القلب، فلما قيل له إن الشاة بلا قلب، أخذ ينشد: «وشاةٍ بلا قلبٍ يداووننى بها فكيف يُداوى القلبَ مَن لا لهُ قلبُ».
بيتٌ من الشعر أعظم من عظيم، بغض النظر عن هذه الـ«لا له» التى تبدو فى مسامعى ذات وقع قلق مضطرب، قرأته فى تباشير المراهقة، حيث القلب طرى كالصلصال، وحيث النقش عليه سهل، فامتلأ وجدانى حتى الثمالة، يقينًا أن الشقاء فى الحب، خير من البلادة التى تستوطن الإنسان، إذا عاش وحيدًا كشجرة صبّار «مُرّة» فى الصحراء.
على أن تلك المفارقة لم تسترعِ انتباه «شوقى» فحسب، بل شكلت مصدر إلهام لغيره من الشعراء، فمن قبله أهدى شعراء المتصوفة تراث الأدب العربى، أشعار العشق الإلهى: أسمى طبقات الحب قاطبةً، وفيها نلمس انعكاسات مدهشة لهذه الفكرة، ومن ذلك ما يقوله «ابن الفارض»: «لكَ فى الحى هالكٌ بكَ حى، فى سبيلِ الهَوى استَلَذّ الهلاكا».
شخصيًا... كتبت البيت، وشىءٌ من وجدانى هتف منتشيًا: «يا عينى»، لكن هل يُستلذُ الهلاك ويُستطابُ العذاب؟
حين نمضى أعمق مع المتصوفة، حتى طبقة «الفناء فى ذات المحبوب»، سنتأكد من إمكانية ذلك، فهذا أبوالحسن الشاذلى يجيب على سؤال حول مغزى «الخمرة» فى أشعارهم قائلًا: «مثلما تُدخل خمرة الكرم شاربها إلى عالم جميل، تدخل الكلمات التى تنطلق فى قلب المحب، قائلها إلى عالم حقيقى، أشبه ما يكون بالجنة التى وعد الله الصالحين، نحن حينما نناجى المحبوب بكلماتنا نشعر بالسكر، ونحلق فى عالم الروح بلذة ونشوة تتضاءل أمامها نشوة الخمرة».
عبارة نفهم فى ضوئها مقولتهم: إن المحبة لا تصلح بين اثنين، حتى يقول الواحد للآخر: يا أنا.
المسألة لا تتعلق بإمكانية أو استحالة الوصول، ليست فى الوصل أو الهجر، فالدرب «جذّاب» فى حد ذاته، وهو ما يقرره شاعرنا صلاح جاهين بعامية راقية: «أنا اللى بالأمر المُحال اغتوى، شفت القمر نطيت لفوق فى الهوا طلته مطلتوش، إيه أنا يهمنى وليه؟ ما دام بالنشوى قلبى ارتوى».
ولم يختف هذا المعنى من قرائح شعراء متقدمين، فإمام شعر الحب نزار قبانى يقول، فى حالة مرهفة للغاية: «وأخيرًا.. جئتِ يا موتى الجميل، فاقتلينى نائمًا أو صاحيا، اقتلينى ضاحكًا أو باكيا، اقتلينى كاسيًا أو عاريًا، فلقد يجعلنى القتلُ وليًا مثلَ كلِّ الأولياء، ولقد يجعلنى سنبلةً خضراء، أو جدولَ ماء، وحمامًا وهديل».
إنه الحب أصل كل شىء جميل، كلمة الله التى ألقاها فى قلوب بنى آدم، الميزة التى كرم بها مخلوقاته الأكثر رقيًا.. ولأنه كذلك، فيجب أن يُبتغى لذاته، فالسعادة ليست فى بلوغ نهاية الدرب، ولكنها فى السير عليه، حتى لو كان دربًا من الجمر والشوك.
إنه الحب، السكين الذى نرحب بدخوله إلى أعصاب القلب، القاتل الذى ننتظره بشغف، ألا يقول المتنبى: عجبتُ كيف يموتُ من لا يعشق؟ لكنه حقًا، موت جميل.