الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

فكروا بقلوبكم فالعقول آثمة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«حكيم روحانى حضرتك؟».. هكذا سألت راقية إبراهيم، محمد عبدالوهاب فى سياق كلمات الأوبريت الشهير، الذى أبدعته قريحة شاعرنا حسين السيد، ليكون ضمن أغنيات فيلم «رصاصة فى القلب».
كان السؤال ردًا على عبارة الموسيقار الراحل، لما شكت له وجع سِنّتها: «عشان تحرّمى تاكلى جلاس وتدوّبى فى قلوب الناس».
وبعيدًا عن الفيلم والأوبريت، يبقى السؤال: حكيم روحانى حضرتك؟ موحيًا مستفزًا، ذلك على الرغم من أنه ليس جديدًا أن نقول إن الإنسان روح وجسد، لكن ما كنه تلك الروح؟
سؤال أراد الخبثاء من أحبار اليهود إحراج الرسول، صلى الله عليه وسلم به، فإذا به يستقصى الجواب من الوحي، فإذا الآيات تتنزل من فوق سبع سماوات: «ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي».
الروح إذن، هى سر الأسرار الذى احتفظ به الله عز وجل، ولم يقدمه للبشر، مكتفيًا بتعظيمها: «فإذا سوَّيته ونفختُ فيه من روحي».. تمعن جيدًا «من روح ذى الجلال».
غير أن هذا الغموض، لم يدفع الإنسان إلى التخلص من نهمه الفطرى إلى المعرفة، فقد بحث طويلًا فى المعضلة، لكن حصاد بحثه منذ «إنسان الكهوف»، حتى حفيده الذى صعد فوق سطح القمر، لم يهتدِ إلى شيء ذى قيمة.
كان البدائى يرقب صديقه أو قريبه، فيما يلفظ أرماقه الأخيرة، حتى يموت، ومن ثم يلاحظ أنه على هيئته «الطازجة»، لا تغيير فى مظهره، باستثناء أن «أنفاسه توقفت»، وهكذا تدور مفردة الروح فى اللغات القديمة جميعها، فى إطار أنها «ريح أو نَفس».
ومع تحضر البشر، ظهرت تفاسير لهذا «الشيء الغامض»، فإذا بأبى الفلاسفة، سقراط يقول بأنها «أساس كينونة الإنسان، والمحرك الأساسى له»، فيما رأى أفلاطون أن الروح هى مخزن المطالب العاطفية، وحتى يُبسط فكرته قال: «إذا كان للسكين روح، فإن عملية القطع هى تلك الروح».
تفسير عمره نحو ألفين وخمسمائة سنة، ولم يفقد جديته بعد، فالمؤكد أن هذا السر المبهم، هو ما يميز بنى آدم، عن غيره، فإن كانت للدواب والأشجار أرواح، فإنها ليست بمستوى تعقيد الروح البشرية، والتى يمكن القول إنها ذات طبقات، نلمسها فى تفاسير «فرويد»، للشخصية بأنها تتشكل من: «الهو والأنا والأنا الأعلى».
وإذا كان الحديث عن الروح، لا يعنيه كثيرًا «الهو» و«الأنا»، فإن «الأنا العليا» تتخذ موقعها مرتكزًا رئيسًا فيه، فهذا المفهوم عند «فرويد» يعنى الضمير، وهو فى الحقيقة مفهوم ملتبس كالروح تمامًا.
ما نعرفه يقينًا، أن الضمير من أهم موجهات السلوك، وفق قائمة مبادئ وأخلاقيات، واللافت أنه ليس عقلانيًا، بل مثاليا حالما، فمعارضة نظام سياسى باطش مثلًا، قد تعرض صاحبها للتنكيل والاعتقال، إلى آخر قائمة القمع المتاحة، لكن الضمير يأبى الرضوخ لـ«المخاوف العقلانية»، فيفعل الأمثل أو «الأجمل»، وليكن ما يكون.
وخلال العقود الثلاثة الماضية، ظهرت مؤشرات متواترة، على أن العواطف تصدر لا عن العقل، وإنما القلب، فهذا العضو المرهف، والذى يدق سريعًا لرؤية الحبيبة، أو يصاب بالألم حين تمرض مثلًا، لا يصاب بتلك العوارض لمجرد أنه «مضخة تتلقى إشارات المخ»، وليس لكونه منفذًا للأوامر، على طريقة «السمع والطاعة الإخوانية»، أو على طريقة «الجند فى الثكنات»، بل يتحكم بالعقل أكثر مما نتخيل، وهناك أربعون ألف خلية تنقل المعلومات من القلب إلى العقل، والأكثر دلالة من ذلك، أن إشارات القلب للدماغ تبلغ سبعين ضعف التى يتلقاها منه، كما ثبت أن المخطط الكهربائى للقلب، أكبر بمائة ضعف منه للمخ.
وفى النص القرآني، يرد القلب مائة وسبعًا وثلاثين مرة، وفى كل المرات، يشار إليه باعتباره محور الهداية والضلال، والخير والشر، والإيمان والكفر، وكذلك باعتباره مركزًا لاتخاذ القرار: «فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوبُ التى فى الصدور»، وهو الأمر الذى يقرره الحديث الشريف: «ألا إن فى الجسد مضغة إن صلحت صلح الجسد كله».
والمدهش أن دراسات حديثة تكشف عن أن للقلوب ذاكرة، أو «دماغًا صغيرًا»، وقد طفا هذا المفهوم، مع ثورة جراحات نقل الأعضاء، إذ لاحظ الأطباء أن تغيرات سلوكية عميقة طرأت على من تلقوا قلوبًا «جديدة»، ومن ذلك ما ذكرته امرأة تدعى «كلير» زرعت قلب شاب توفى فى حادث، من أنها أصبحت تميل إلى معاقرة الخمر، وتناول الأطعمة الحارة، وقد كانت تكرههما، والأغرب من ذلك أن طفلة حصلت على قلب قتيلة، تعرفت على الجاني، وكانت تنتفض رعبًا متى أبصرته.
أمر فوق قدرات العقل، لا يقدر عليه إلا «القلب أو الروح»، إن شئت توسيع زاوية الرؤية، لكن الإنسان المغرور يتعالى على قلبه، فيُحقِّر من أهميته ودوره، ويعلى بجهالة من العقل، الذى يقترف آثامًا مرعبة، مثل اختراع القنبلة الذرية مثلًا.
العقل يخطئ كثيرًا، والقلب يصيب كثيرًا، وحياة البشر ليست معادلة تؤدى إلى جزيء ماء، من اتحاد الهيدروجين والأكسجين، الإنسان أسمى من ذلك، إن به «سر أسرار الله».
فكروا بقلوبكم قليلًا، فالعقل قد يشقى صاحبه، كما أن قراراته ليست صوابًا مطلقًا فى المطلق.