الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

هائم في الطرقات

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أسباب كثيرة تجعلنى أعود إلى قراءة أعمال الشاعر السورى الكبير الراحل محمد الماغوط، أهمها أنه شاعر جديد طوال الوقت وقريب من القلب، وتوجد بينكما صلة قربى، ولا تمل حديثه، هو يبدو سهلا، لأنه غير مشغول بما سيدونه التاريخ عن الشعراء، يظهر لى دائما وهو يقول مبتسما:
لقد أعطونا الساعات وأخذوا الزمن 
أعطونا الأحذية وأخذوا الطرقات 
أعطونا البرلمانات وأخذوا الحرية 
أعطونا العطر والخواتم وأخذوا الحب 
أعطونا الأراجيح وأخذوا الأعياد
أعطونا الحليب المجفف وأخذوا الطفولة 
أعطونا السماد الكيماوى وأخذوا الربيع 
أعطونا الجوامع والكنائس وأخذوا الإيمان 
أعطونا الحراس والأقفال وأخذوا الأمان 
أعطونا الثوار وأخذوا الثورة 
يظهر الماغوط (1934 ـ 2006) فى اللحظات العصيبة التى تمر بها أمتنا، وأتخيله يشاهد ما يحدث ويدخن ويضحك على ما وصلنا إليه، تطبيع مجانى فى كل مكان مع عدو غادر، دماء فى كل مكان والضحايا يدفعون الثمن، أحلام تتهاوى تحت أقدام كارهى الحرية، فتنة طائفية يصنعها الاستعمار فى النفوس قبل أن يبذرها على الأرض، يطيب لى أن أذكر بهذا الكاتب الكبير بين الحين والآخر، وربما أعيد ما كتبته، لأننى أعتقد أن هناك من يريد حصاره رغم رحيله... «وأنا هائم فى الطرقات، أصافح هذا وأودع ذاك، أنظر خلسة إلى الشرفات العالية، إلى الأماكن التى ستبلغها أظافرى وأسنانى فى الثورات المقبلة، فأنا لم أجع صدفة ولم أتشرد ترفا أو اعتباطا، ما من سنبلة فى التاريخ، إلا وعليها قطرة من لعابى»، يلح على هذا المقطع من قصيدة «الغجرى المعلب» لمحمد الماغوط، وأنا أنظر بأسى إلى ما آلت إليه الأمور، وأحاول وأنا أتفادى الحفر المبدورة فى الطريق، وأجدنى أكمل معه: «ما من قوة فى العالم ترغمنى على محبة ما لا أحب وكراهية ما لا أكره، ما دام هناك تبغ وثقاب وشوارع»، «الماغوط» الذى انتصرت قصيدته بعد موته، وبعد الثورات التى بدأت نقية مثل شعره، ووصل بها الحال إلى اختطاف ما هو شعرى فيها، مرة باسم المصلحة الوطنية، ومرة باسم الدين، هو لا يشبه الذين يظهرون فى الفضائيات بعد أن نصبوا أنفسهم متحدثين رسميين باسم الشعب والوطنية، لم يتغير كما تغير المناضلون القوميون على الشاشات، وفى غرف المؤامرات المقفولة، لم تكن له أموال فى البورصة مثل الشيوعيين القدامى، ولم يبحث عن المجد مثل شعراء جيله، الذين يقفون فى طابور أمام صحراء اللغو فى انتظار الرضا، كان يقول عن نفسه: «فى الأوقات العادية أكون عاديا جدا وفى الأزمات أكون محمد الماغوط»، كان طريد السلطة الغبية والفقر وضيق الأفق، كان طريدا مثل أحلامنا، غادر قريته وعمره 14 عاما، وقال «كنت سأدرس الهندسة الزراعية، كنت متفوقا، وفجأة أحسست أن اختصاصى ليس الحشرات الزراعية بل الحشرات البشرية»، دخل هذه المدرسة لأنها تقدم الطعام والشراب مجانا، وهرب منها، ومشى على قدميه يومها 15 كيلومترا، ومنذ ذلك الحين ـ كما قال ـ بدأ فى كتابة الشعر، كان يقول «لن أجوع أكثر مما جعت ولن أتشرد أكثر مما تشردت ولن أهان أكثر مما أهنت، ولن أسحق أكثر مما سحقت، وسأظل حفرة فى كل طريق وخريفا فى كل غابة وظلاما فى كل شارع وأنينا فى كل عرس وضحكة فى كل مأتم، حتى تستقيم الأمور لأجيال جديدة وأفكار جديدة»، عندما تقرأ ما كتبه عن مدينته «سلمية» قبل عقود تشعر أنه كتبها عن القاهرة هذه الأيام: «يحدها من الشمال الرعب ومن الجنوب الحزن ومن الشرق الغبار ومن الغرب الأطلال والغربان، فصولها متقابلة أبدا فى قطار كعيون حزينة»، لم يكن له أصدقاء، وكان يقول إنه يحب عزلته ويحاول الحفاظ عليها، وأنه يحب الجماهير وهى بعيدة عنه، ويؤكد: «لم تخذلنى الجماهير مع أنى كنت قاسيا، ولكنها قساوة أب مع أطفاله»، كان يتمنى أن يكون حصاة ملونة على الرصيف، أو أغنية طويلة فى الزقاق.. كان مثل الذين ثاروا فى كل مكان، يضربه شيخ الحارة فى طفولته ليحفظ ويتذكر، وفيما بعد يضربه الشرطى لكى ينسى، ومع هذا يقول: «لكننى لن أموت دون أن أغرق العالم بدموعى وأقذف السفن بقدمى كالحصى»، محمد الماغوط لم يكن شاعرًا سوريًا، بل كان أكبر من ذلك، لأنه سليل القهر الذى جرف الإنسانية إلى ما آلت إليه «كل حقول العالم ضد شفتين صغيرتين، كل شوارع التاريخ ضد قدمين حافيتين»، كلما اقتربت من الماغوط، أشعر أننى أتعرف عليه للمرة الأولى، وأتمنى أن أفعل مثله: «أحشو مسدسى بالدموع وأملأ وطنى بالصراخ»، لأننى «لا أملك حتى طفولتى.. لا أملك سوى أخطائى».